محطات: "إيدي النسر"!!

 

 

 

 

 المعتصم البوسعيدي

 

يُعرف النسر بسيِّد الطيور، وتُشَبه مكانته بينها بمكانة الأسد في الحيوانات؛ الحجم القوة، النظر، والكبرياء، فالنسر لا يحب أن يعلوه أحد؛ وعلى هذا يبني عشه في قمم الجبال.

لقد أخذت على قلمي عهدًا أن أطل على القارئ ـ بين الفينة والأخرى ـ من خلال نافذة أسميتها "محطات" أنقل عبرها سيرة الأبطال والنجوم في الرياضة بمُختلف ألعابها، وهذه المرة أستوقفني بطل أولمبي غير متوج بالبطولات، لكنه المعنى الحقيقي لمقولة "بيير دو كوبرتان" مؤسس الحركة الأولمبية عام 1896م: "المهم في الأولمبياد ليس الفوز؛ إنما المُشاركة. المهم في الحياة ليس النصر؛ إنما الكفاح"، وذاك "لعمري" البطل البريطاني "مايكل إيدواردز"

كل ما سأكتبه في سيرة هذا البطل مُستلهم من فيلم سيرته الذي حمل اسم "إيدي النسر" إنتاج العام 2016م، فيلم يجسد المعنى الحقيقي لصناعة الذات ـ إن صح التعبير ـ، فقد عبر هذا البطل كل التحديات منذ طفولته التي عانى فيها من رُكبتينِ ضعيفتينِ نصحه الأطباء بسببهما بالتَّخلي عن الرياضة والتوجه للقراءة، ولقد قرأ أوَّل ما قرأ وهو طفل "الألبوم الأولمبي الرسمي ـ لحظات من المجد" كتاب أوجد بداخله طموحاً حلَّق به نحو المجد الكبير.

بداية الطموح تغيير في مسار اللعبة التي كان يود ممارستها، فقد رأى منحدر التزلج بالقرب من مقر عمل والده، فقرر ـ حينها ـ مزاولة رياضة التزلج التي تُعد "الأكثر إثارة في الألعاب الأولمبية الشتوية؛ حيث تحدى الجاذبية بمزيج من القوة والتوازن وبشجاعة متهورة" فشق طريقه عبر المدرسة الخطوة الأولى ثم وصل ليكون ضمن 14 مرشحاً لسباق المنحدرات الأولمبي البريطاني، لكنه تعرض "لمطب" أُخرجه من التنافس بحجة واهية: "أنت لست مادة أولمبية"!!.

إصرار "إيدي" كان عاليًا، والمطب الذي اعترض طريقه كان الدافع لرسم خطته اللاحقة "سأكون قافز تزلج أولمبي" بعدما عرف أن آخر فرقة تزلج بريطانية تعود إلى ما قبل 60 عاماً آنذاك، الأمر لم يكن سهلاً مما أضطره لمغادرة منزله وبلاده متوجهًا "لجارميش" بألمانيا حيث يتجمع أفضل المتزلجين وفيها التقى بالفلندي الطائر بطل التزلج "ماتي"، وجمعه القدر مع "بيترا" صاحبة الحانة التي وفرت له السكن والمعيشة، كما اجتمع ـ أيضًا ـ بالمؤثر في مسيرته الرياضية مدربه "برونسون بيري" منظف منحدرات التزلج والبطل السابق لشباب الولايات المتحدة الأمريكية 1968م وأحد أفضل متزلجي فريق المدرب الأمريكي العظيم "وارن شارب" والذي خاب ظنه في بطله بسبب ما وصفه "بعدم احترام الرياضة وقلة الانضباط"!!

لم يكن شغف "إيدي" باللعبة كافيًا ليواصل التقدم، فظل يبحث عن من يسدي إليه النصيحة للنزول بسلام من قفزة الـ (70) متراً، استبسل كثيرًا وتألم أكثر من السقطات الموجعة التي كادت ستذهب بطموحه وبحياته!!، تجاوب معه بعد ذلك "برونسون بيري" وقرَّر مساعدته، وبالفعل نجح "المجصص" ـ المهنة التي يمارسها "إيدي" مع أبيه ـ  في العودة للوطن برقم بريطاني جديد في قفز التزلج (34) مترًا ليكون في الأولمبياد ضمن الفريق البريطاني، إلا أنّه وبفعل فاعل تم تغيير المُعطيات وفرضوا عليه تحقيق رقم أدناه (61) مترًا في بطولة معترف بها كشرط يضمن دخوله للفريق الوطني، مُعتقدين استحالة الأمر وتقهقر الرجل.

المضمار الأوروبي كان هدف "إيدي" لمواصلة طموحه، والمال تحدٍ آخر لكن من يملك قلب أم حنون وأب لا يخذل ابنه سيعبُر في النهاية، انطلق "إيدي" بشاحنة أبيه، فواصل المدرب تعليم لاعبه وصقل مهارته وإعداده بالمتوفر، في المقابل كان اللاعب أكثر عزيمة وثقة، ورغم السقطة التي أعتقد أنها نهاية المشوار، إلا أن رقمه الذي كافح لتحقيقه احتسب ليصل للألعاب الأولمبية الشتوية عام 1988م "كالغاري" بكندا، وللأسف دون مدربه الذي ظن أنه سيرتكب نفس الخطأ الذي قام به، وسيكون محط "التهريج" والسخرية!!.

اختلاف الرؤية مع مدربه كان لمصلحة "إيدي" الذي نجح في قفزة الـ(70) متراً محققاً رقماً قياسيا بريطانيا، وقد احتفل بهذا الرقم أيما احتفال ورقص مع الجمهور الذي أحبه كثيرًا ودخل قلوبهم من الباب الواسع، ولُقب حينها بـ "إيدي النسر" وبات مادة دسمة للإعلام رغم أنّه ليس المتوج بالميداليات، وفي لحظة حاسمة بعد أيام من سباقه هذا وفي ظل تجاهل المسؤولين في الفريق البريطاني ونقد مدربه اللاذع قرَّر "إيدي النسر" الدخول في قفزة الـ(90) متراً ببيان إعلامي مدهش أبهر مدربه واستدعى سفره لمُساندة نسره المكافح.

قُبيل القفزة التاريخية استعاد "إيدي" في ذهنه ظن النَّاس به، لقد سعى لإثبات عكس ما يظنون؛ فحلق كالنسرِ، وحط على بياض الثلج بنزول صعب كاد أن يفطر به القلوب، إلا أنّه نجح في تحقيق رقم بريطاني جديد وحل تاسعًا في الترتيب العالمي وأشير له في كلمة ختام الأولمبياد، ثم إنه استقبل استقبال الأبطال.

الاستفادة من سيرة "إيدي النسر" متاحة وعلى مرمى رياضيينا، الطموح لا سقف له والمرام بلوغ النصر وتحقيق معادلة الكفاح.. الإصرار ثمَّ الإصرار ثمَّ الإصرار!!.

 

الأكثر قراءة