حمد العلوي
لقد أفنى التشابك في فهم حدود التفاهم بين الساسة العرب هذه الأمّة، فعندما برزت ظاهرة الزعيم جمال عبد الناصر في شأن الوحدة العربية، تحت شعار "القومية العربية" ظهر طرف آخر يزعم، إّنه هو يقود الأمّة العربية، تحت راية الإسلام الشاملة، وأخذ هذا التشابك ينمو ويتّسع، بمسميات كثيرة ومتضادة بالطبع، فتشاطر الجمع التنابز بالألقاب وأدناها الخيانة والعمالة، وكل طرف يضع نفسه في صف الملائكة والرسل المعصومين، فهناك التقدمي الوحدوي والاشتراكي، وهناك الرجعي المتخلف المعطل للتطور والتقدم، ومصيبة المصائب أنّ كل طرف يزعم أنّ الحق إلى جانبه، وأنّ كل طرف يختم كلامه، بأنّه هو الأولى بتحرير فلسطين، وإنّه ينوي الصلاة في المسجد الأقصى، حتى أفضى الأمر إلى الهيمنة الإسرائيليّة اليوم على القدس، وها هم مُقدمون على منع الآذان فيه، تتويجًا لتشاكس العرب على المفاهيم، ولكن الغريب بل الأكثر غرابة أنّ من يزعمون حماية الإسلام لم يصدروا حتى بيان شجب واستنكار، كما كانت العادة وحسب المألوف، وإنما كنائس فلسطين كانت أكثر غيرة على الإسلام، وأصدق قيلا من العرب.
والحقيقة الصادقة، فلا العرب أصحاب القومية العربية تحدوا، ولا الضد نجح في القضاء على القوميّة العربية، وظللنا في تشرذم مستمر، تعهدته جامعة الدول العربية بالبقاء، وكاد أن يدخل الوضع في جمود بين لا غالب ولا مغلوب، حتى تدخل الأمريكان بكسر هذا الجمود، فبدأوا بتهيئة المنطقة للتدخل العسكري المباشر، وذلك بعد حادثة الأبراج النيويوركية، ومعظمنا عاش تسلسل هذه الأحداث، فوجدوا أنّ التدخل المباشر مكلف، ونتجت عنه خسائر بشرية كبيرة، حتى وإن أعلن عن جلّها فقط، وكادت أمريكا أن تُفلس هي وأصحابها معاً، فاستغل الروس والصينيون ودول أخرى الفرصة، واشتغلوا بتطوير اقتصاديّاتهم، وترسانات تسلحهم، حتى إذا صحت أمريكا من غمرتها، وجدتهم قد شقوا طريقهم صعوداً، عدا أمّة العرب بالطبع التي زادت إنزلاقاً إلى الأسفل، وقد ظلت في محل المفعول به مع المد المستمر، فعندما تنبّه الغرب والأمريكان على وجه الخصوص، وجدوا الكثير من الأمور قد تغيّرت لغير صالحهم، فقرروا التوقف عن الحرب المباشرة وتغيّر الأسلوب.
إذن تمّ تغير الأسلوب فقط، ولكن ساحة العرب لم تتغير، فاُستحدث شيء اسمه الفوضى "الخلاقة" كل شيء فيها ينفذه العرب، أي تدمير الذات بالذات، وذلك بحجة أن العرب سيفنون الجيوش العربية بالأسلحة الغربية، وهدر أموال النفط العربي، تحت شعار الديمقراطية، والحرية والعدالة الاجتماعية، والعرب هم أبعد خلق الله عن فهم الحرية والعدالة الاجتماعية، هذا إذا استبعدنا الديمقراطية، التي ليس لها تربة تنبت فيها في بلاد العرب من الأصل، ولن أطيل عليكم الوصف للمشهد، لأنه ما زال مُعاشا ومستمرا في نشاطه إلى اليوم، والغد إلى ما شاء الله، ولكن النتيجة النهائية واضحة تماما، ألا وهي تدمير الأمة العربية بالغباء العربي لا غيره.
إنّ المشهد الذي مازال مستمراً، تهول له العين ويتفطر له القلب، لقد نزلت حماقات العرب على أرض العرب، حتى الشيطان الرجيم الذي عصى ربه وتعهد بإغواء خلقه إلا المخلصين منهم، قد أصابته الكآبة والحزن من هول الدمار والقتل، وذلك لدرجة أنّ الشيطان الرجيم ما كان ليغوي طفلتين لم تبلغا العاشرة من العمر للقتل في سبيل لله، وقد فعلها شياطين الأنس بدم بارد، ترى أي إغواء هذا الذي يحصل، والأخطر في الأمر إنّ هذا البهتان ينسب إلى الإسلام، وهم لا يعرفون من الاسلام إلا كلمة "الله أكبر" وهم لا يقولونها إيمانًا بالله، وإنّما إمعاناً في تشويه دين الله، وتصديقاً لمن ظل يُكرّه الناس في دين الإسلام، ويثبت لهم أنه حقاً دين قتل وإرهاب، فها هي الشهادة الأصدق عندما تأتي من أهل الإسلام، أكلة القلوب والأكباد ووأد الأطفال، والعالم الإسلامي يسير إلى كارثة حقيقية، وذلك إن لم ينقّى الدين الاسلامي من كتب الضلالة والتكفير، ولكن هيهات أن يتم هذا بسهولة ويسر، حتى يرفع الله مال الضلالة من يد العرب، ويختفي علماء البترودولار من الوجود.
إنّ الحملة الإعلامية القذرة التي أنتهجها العرب، ضد من يفترض أن يكونوا إخوانهم العرب، ليس لها مثيل من الكذب وتزوير الحقائق، وغاب ضمير الدول الغربية، وشاركت في الكذب والتضليل، على أساس شجة في رأس غيرك شق في جدار، وأنتشرت ستوديوهات التمثيل في كل مكان، فأصبح من ليس له مصنع ليبيع السلاح، لديه أساليب أخرى كلها تصب في المجهود الحربي لتدمير أمّة العرب، فيصبح الجميع رابحاً إلا العرب، وحتى من ظن إنّه ربح تدمير بلاد العرب من العرب والمسلمين، وإنّ بلاده ستنعم بالاستقرار والأمان، فهو واهم ولا شك، فالحكمة تقول، كما تدين تدان، وإذا حسّن جارك ما عليك إلا أن تبل رأسك، ويقول مثل آخر سترى الشارة في وجه الذئب، إن كان قد أكل أخوك فحتماً أنت مأكول، ومن لا يُصدّق، يسأل الأتراك اليوم، حتماً سيخبرونه أنّ الأفاعي أخذت ترتد عليهم، وهذا شرٌ لا نتمناه لأحد، ولكن الحكمة الربانية تقضي بأن تحصد ما زرعت.
إنّ حل المشكلة من وجهة نظري المتواضعة، وهي ليست بهذه البساطة بالطبع، ولكن هناك تجربة قائمة ستدعم الفكرة، ألا وهي سياسة السلطنة، التي ترفض التدخل في شأن الغير، مهما كانت القربة جغرافياً أو اجتماعياً، إذن كل مشاكل العرب، ستحل على قاعدة أفعل خيراً أو أحجم عن الشر، وهذا طبعاً سيتطلب إلغاء جامعة الدول العربية، وإنشاء صيغة أخرى للتعاون العربي، لا يكون من ضمنه الدفاع المشترك، أو السعي إلى الوحدة قبل مائة عام قادمة، ولا يكون هدفه الكاذب تحرير فلسطين، ففلسطين فيها شعب بمقدوره أن يحرر وطنه، ولا يحتاج إلا للدعم المالي والدبلوماسي، وأن يكون هناك صندوق مالي لدعم الدول المحتاجة، يكون له مجلس مستقل، ويا حبذا لو قدرنا أن ننشئ سوقا مشتركا، وأن يكون هناك ميثاق شرف عربي جديد، يقوم على عدم التدخل في شأن الدول العربية بعضها ببعض، وأن تنشأ محكمة لفض النزاعات، ليس فيها بند للتدخل في الدول العربية، وذلك لفرض أحكامها، وإنّما كرأي يستأنس به فقط.
إنّ هذه الدماء التي أريقت على أرض العرب، نتيجة أطماع وهميّة لشعور بعضنا بعظمة قدره مع نفسه، فهذا الشعور المغرور، دفع بالبعض في التدخل في بلاد الغير، وهو لو يعلم أنّه فقط في مقام كلب الصيد، وإنّ الأمريكي والبريطاني والفرنسي هم سينعمون بخلاصة ما قُضم من حق غيره، وحتى داعش وأخواتها يتمنى الغرب انتصارها على بلاد العرب، فلا مانع لديه من ذلك طالما ضمن أمن إسرائيل، وسيظل يرعى استمرارها طالما أمكنه ذلك، وإنّ التحالف الستيني سيظل يرضع ثروة العرب، ويقدم السلاح لداعش، وسينتهي الفيلم باحتلال أرض دولة داعش، ظاهرها نجده في تحرير العرب، وباطنها احتلال منابع النفط والغاز، لذلك يجب على المخلصين في هذه الأمة الاستعجال إلى فك التشابك بين الساسة العرب، وأن يرضوا بما قسم الله لهم من أرض وخير وفير إلى هذا اليوم.. ترى متى سيوجه العرب خبثهم باتجاه العدو الحقيقي، وليس الأخ العربي؟
Safeway.om@gmail.com