المعارضات المُسلحة

 

 

صالح البلوشي

 

أرسل لي أحد الأصدقاء - الذين يتابعون مقالاتي - قبل عدة أيام رسالة، قال فيها: "إذا نقول دائمًا أنّ المعارضة أسوأ من الأنظمة، فهل هذا يعني أننا نُبقي على الأنظمة ونصبر على المحسوبية والفساد والتأخر إلى الأبد، أو ننتظر إلى أن تأتي معارضة بالقياس الذي نريد؟ وهل يمكن للمعارضات أن تصبح جيدة في ظل الإعلام والإعلام المضاد؟" ثم ضرب مثالا في ليبيا وسورية وقال: إلى متى على الشعبين في ليبيا وسوريا الصبر على النظامين هناك؟"، وأصدق القارئ أنّي ترددت بداية في كتابة هذا المقال لأنّ الكاتب زاهر المحروقي سبقني في ذلك الأسبوع الماضي في مقاله الذي نشره في هذه الصفحة نفسها، بعنوان: "المعارضات العربية أسوأ من الأنظمة"، ولكن وبما أنّ هذا الصديق العزيز قد وجّه السؤال إليّ شخصيا ولم استطع إجابته على الواتس آب، ولأنّي لا أجيد كثيرًا كتابة الإجابات الطويلة في النقال، فقد رأيت أن يكون جوابي في هذا المقال.

أولا: لنسأل أنفسنا ما معنى المعارضة؟ ومتى يمكن أن نعارض؟ وهل المعارضة تستلزم رفع السلاح على الحكومة والدولة؟ المعارضة السياسية: تعني أن تعارض سياسة الحكومة، وأن تطرح برنامجا سياسيا بديلا، ترسم فيه تصورها التنموي اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا، هذا في الدول التي تعترف بالتعددية الحزبية، أما في الدول التي لا تعترف بذلك فتُطرح الآراء التي تخالف وجهات نظر الحكومة في الصحف والمجلات ومواقع التواصل الاجتماعي عن طريق الكتاب والصحفيين ونشطاء التواصل الاجتماعي، وجميع ذلك يعدّ ظاهرة صحية في حد ذاتها إذا لم تخالف القانون.

ولكن لو نظرنا إلى المعارضات العربية فماذا نجد؟ من المؤكد أن هناك أحزابا وشخصيات معارضة كثيرة في العالم العربي لا يشك أحد في وطنيّتها وإخلاصها ونزاهتها، وكثير من هؤلاء يعارضون حكوماتهم ولكنهم في الوقت نفسه لا يقبلون أن يكونوا أداة بيد الخارج ضد بلدانهم، ففي العراق – مثلا – عارضت شخصيات معارضة كثيرة العدوان الأمريكي على العراق سنة 2003 وما تزال على موقفها حتى الآن، وفي سوريا رفضت المعارضة الوطنية التعاون مع الحركات الإرهابية: كداعش، والنصرة، وجيش الإسلام وغيرها، وقالت صراحة: إنّ هذه الأحزاب خطر على سوريا وعلى الأمة العربية بأسرها. وهناك أحزاب معارضة كثيرة لها مقاعد في كثير من البرلمانات العربية بل إن حزب العدالة والتنمية المحسوب على الإخوان المسلمين فاز هذا العام بأعلى نسبة في الانتخابات البرلمانية المغربية؛ ولذلك لا يمكن أن نقول: إن جميع المعارضات العربية هي سيئة ومرتبطة بالخارج.

وعودة إلى سؤال صديقي حول بعض المعارضات العربية، فإنّه لا يمكن الدفاع عن المعارضات التي باعت أوطانها مهما كانت مبرراتها لذلك، فإنّ الخيانة لا يمكن تبريرها، والعمالة هي مدانة تحت أي عنوان كان، فهل المعارضة التي قدمت معلومات عسكرية خاطئة للولايات المتحدة الأمريكية لتضخيم القوة العسكرية التي يمتلكها صدام حسين نستطيع تسميتها بالمعارضة؟ هل هناك معارضة في العالم تحترم نفسها وشعبها تحرض قوة أجنبية على غزو أرضها مع العلم بأنها تعلم تماما أنّ هذا الغزو سيتسبب في مقتل مئات الآلاف من الأبرياء؟ ثم ماذا حصل؟ لقد أسقط الأمريكان صدام حسين؛ ولكن الديمقراطية التي وعدت بها المعارضة لم تأتِ بعد، ولم يبزغ فجر التحرير على العراقيين حتى اليوم، وإنما دخل العراق في نفق مظلم لم يخرج منه حتى الآن، حتى استطاع مغول العصر احتلال محافظات بأكملها وقتل أهلها بكل وحشية حتى كادت جحافلهم تدخل بغداد وكربلاء والنجف لولا التدخل الأمريكي الذي أوقف زحفهم وأسقط حلمهم، وإذا تركنا العراق واتجهنا إلى ليبيا فإن البلد كان يشهد انفتاحا سياسيا كبيرا، وكان من المنتظر أن تتطور إلى شكل أفضل تضمّن مشاركة سياسيّة أوسع في صنع القرار ولكن أحداث عام 2011 ورياح السموم التي هبّت على المنطقة العربية قضت على أي أمل للإصلاح السياسي وخاصة بعد أن لعب الإعلام الأجنبي والعربي وخاصة قناة الجزيرة دورًا كبيرًا في تشويه الأحداث هناك، وبدلا من نقل الأحداث كما هي في الواقع ادعت هذه القنوات أن الطائرات المقاتلة الليبية كانت تقصف المتظاهرين بالصواريخ، وأن الحكومة الليبية تستعين بمرتزقة أفارقة من أجل ضرب المظاهرات، وهي المزاعم التي ثبت زيفها بعد ذلك، وعندما بدأ الجيش الليبي باسترجاع بعض المدن التي سيطر عليها المسلحون طلبت المعارضة تدخل الناتو الذي قام بقصف المدن الليبية بالصواريخ؛ مما أدى إلى مقتل عشرات الألوف من الأبرياء، وبعد سقوط نظام العقيد القذافي لم تتحول ليبيا إلى جنة للديمقراطية بل إلى ساحة للتقاتل بين المليشيات المسلحة المختلفة، ووسط هذه الفوضى كان لا بد أن يدخل تنظيم الدولة الإسلامية في ساحة الأحداث هناك؛ حيث استطاع هذا التنظيم السيطرة على مدينة سرت قبل أن تتمكن القوات الليبية وبمساعدة القصف الجوي الأمريكي من طرده منها مؤخرا.

أمّا الوضع السوري فإن الموضوع أمرّ وأدهى وأذكر بأنّي قلت لأحد أصدقائي في الشهر الثالث للأحداث: إني لا أثق في معارضة يظهر بعض رموزها في قنوات الفتنة كوصال وصفا، لا أثق في معارضة ترفع شعارات طائفية، لا أثق في معارضة تستنجد بالولايات المتحدة من أجل  التدخل العسكري في سوريا للإطاحة بنظامها الشرعي، لا أثق في معارضة وصل بها الأمر إلى تأييد الضربات العسكرية الإسرائيلية لبعض المواقع العسكرية السورية، والأفظع من ذلك كله معارضة تضع يدها في يد القاعدة وجبهة النصرة، حتى أنّ رئيس ما يسمى بالائتلاف الوطني السوري آنذاك الشيخ معاذ الخطيب ندد وبشدة في كلمة له في مراكش بالمغرب سنة 2012 (والكلمة موجودة ومسجلة في موقع اليوتيوب): عندما قامت الولايات المتحدة بوضع اسم جبهة النصرة ضمن لائحة الجماعات الإرهابية في العالم، وقال إننا مهما اختلفنا مع هذه الجماعة سياسيا وفكريا فإنهم شركاؤنا في النضال ضد النظام السوري، وهذه الجبهة هي التي ظهر رئيسها أبو محمد الجولاني في برنامج "بلا حدود" في قناة الجزيرة القطرية سنة 2015 وقال إنّ الجبهة عندما تسيطر على أي منطقة فإنّها تخير سكانها العلويين والدروز والإسماعيليين والمسيحيين بين الإسلام أو الجزية أو القتل، ولم يعلق المذيع أحمد منصور على كلامه بل طلب منه تأكيد هذا الأمر على أساس أنه يمثل تسامح هذه الجبهة مع الأقليات المذهبية والدينية في سوريا.

إذن، كل معارضة تضع يدها بيد قوى خارجية هي مدانة، وكل معارضة لا تحمل أجندة وطنية هي مرفوضة، وكل معارضة تحمل السلاح بوجه الدولة فهي ليست معارضة إنّما عصابة إرهابيّة.