هل كلماتنا لم تعد تُطابق الواقع؟

د. سَيْف المعمري

يُخطئ من يعتقد أنَّ الاقتصاد كان الكلمة الأكثر إثارة للنقاش والجدل في العام 2016، لقد كانت الكلمات التي تُكتب هي الأكثر تأثيرا وإثارة للنقاش، فلم نشهد عاماً أثارت الكلمات فيه قلقاً في المنطقة كما كان في هذا العام، وكأننا نكتشف لأول مرة أنَّ للكلمات قوة، وكأننا نجد لا شيء يُمكن أن يُهدِّد مجتمعاتنا إلا هذه الكلمات التي يكتبها كاتب هنا أو هناك؛ فمن أين اكتسبت الكلمات هذا التأثير الكبير في مجتمعات توصف بأنها قليلة القراءة؟ ولماذا كان الكُتَّاب هم الأكثر إثارة للجدل بدلا من الاقتصاديين الذين كان يُفترض أن يكونوا أبطال هذا العام؟ يقدِّمون ما يستطيعون من أجل تحريك مياه التنويع الاقتصادي الراكدة، ويسهمون في فتح مسارات للأمل في بناء اقتصاد مُختلف عن ذاك الذي عهدناه في السابق، والذي كان لهم دور رئيسي في خلقه وتربيته تربية مُدلَّلة فيها حماية زائدة من الحكومة، وعطف مُتناهٍ لا يمكن أن يتخيله أحد.

من السَّهل طرح مثل تلك الأسئلة، لكن من الصعب تقديم إجابات لها، ولكن لابد من محاولة فهم لماذا وضعت الكتابة والكتاب خلال هذا العام في قفص الاتهام، بدلا من أن توضع فيه "الخطط الاقتصادية" التي اكتشفنا أنها لم تكن فعالة، وأن لا أحد حتى اليوم يعرف ثمن عدم فاعليتها؟ إنَّ أول افتراض يمكن أن يطرح حول فهم هذه المسألة المعقدة هو أن البعض يرى أن "الكتابة لم تعد مطابقة للواقع" على تعبير الكاتب الأمريكي أستر على لسان أحد شخصياته في كاتبه "ثلاثية نيويورك"، وبالتالي فإن ما يطرحه الكتاب من محاولة لكشف وتحليل الأحداث هو تجنٍّ لا يقوم على أسس منطقية، إنما يقوم على تصفية حسابات شخصية؛ لذا فمثل هذه الدوافع تفقد ما يكتبون المصداقية، فحين يكتب كاتب "أن التعليم يمر بمأزق"، فإن ذلك لا يعبر عن الواقع الذي يظهر أن التعليم يعيش أزهى مراحله، فلا صعوبات يعاني منها الطلاب، ولا فشل يذكر أن الخريجين واجهوه في اختبارات التوظيف، وحين يكتب كاتب آخر عن "التضييق على الكفاءات الوطنية"، فإنَّ ذلك لا أساس له؛ لأنه لا يوجد أحد يتم التضييق عليه في المؤسسات، ولا يوجد "خبراء" وضعوا بدون أي عمل في مؤسساتهم، وهكذا تمضي كل الطروحات التي تقدم، فلماذا الإصرار على الكتابة إن كانت الكلمات فقدت وظيفتها الأساسية؛ وهي: التعبير بصدق عن الواقع؟ ولماذا يصر الكتاب على مواصلة الكتابة رغم كل ما يوجَّه لهم من نقد، وكأنهم سبب لكل شيء تعاني منه مجتمعاتنا التي لا تعترف بالكتابة كمهنة، ولا تمنح الكاتب القيمة التي يستحقها، أو تلك التي تجعله على منصة واحدة على الأقل مع رجال الدين الذين يقومون بمهمة خطيرة جدًّا وهي إقناع الناس بالنظر إلى الأعلى بدلا من النظر إلى الأرض التي لا يزالون يعيشون عليها، ويحتاجون فيها إلى الكثير من المتطلبات، ويتساءلون: لماذا لا يوجه خطاب الزهد فيها إلى من يملكون الثروات بدلا من أن يوجه إلى منا لا يملك؟!

والسؤال هو: من الذي يُحدِّد إن كانت الكلمات مطابقة للواقع أو أنها تضلل الواقع؟ لقد استخدم أحد الإعلاميين البارزين عبارة تُعبِّر عن واقع المرحلة التي تعيشها الكتابة؛ حيث قال في وصفه لأحد الكتاب بأنه يملك "قلم وطني خالص"؛ للإشارة إلى من برأيه يكتب الواقع؛ وبالتالي فإنَّ الآخرين لا يملكون إلا أقلام "غير وطنية"؛ وبالتالي أصبحنا للأسف أمام فرز وتصنيف، بل أمام طائفية أثارتها الكتابة خلال هذا العام، وأكد أحد الاقتصاديين البارزين في إحدى المجموعات الحوارية على ذلك؛ حيث قال: "إنَّ الكتاب لا يعرفون إلا إثارة المشاكل"، ولا أعرف من أثار كل هذه الإشكاليات التي نعاني منها اليوم! أليس بعض الاقتصاديين الذين دعمتهم الدولة في كل شيء، واليوم لا يبدون أي استعداد للتعبير عن مسؤوليتهم تجاهها!! وقال لي ثالث هذا العام: كيف يُمكن أن تقنعوا المواطنين بأن يقفوا مع الحكومة خلال هذا العام؟! فقلت له: أليس من الأجدر أن يوجه هذا السؤال لكم أنتم، فأنتم الأقدر على الوقوف مع البلد في أزمته الاقتصادية!! ولا أعرف هل اعتبرني بذلك "قلما غير وطني" لأنه كان يريد مني أن أرسم له الواقع الذي يريد، والذي يخدم تفكيره وتوجهه.

لا شكَّ أنَّ الكُتَّاب المسؤولين ليسوا فئة ضالة تريد الإضرار بهذا الوطن، أو أنها تريد أن تنال مما تحققه له، ولا توجد لديها نوايا غير حسنة تجاه مؤسساته، ولكن الكلمة التي يكتبونها إن لم تطابق الواقع تفقد قيمتها، وإذا فقدت قيمتها، فقدت رسالتها السامية التنويرية، وعلى أولئك القلقين من الكلمات أن يتصالحوا معها، وأن يثقوا أنها لن تغيِّر فردا يرفض أن يتغيَّر، ولن تدفع مؤسسة لأن تتطوَّر ما لم تؤمن بقيمة ذلك لها، ولن تقود إلى إزاحة مسؤول من مكانه ما لم يُراد له ذلك، ولن تحجب الضوء ما لم تكن هناك غيوم، ولن تحول من اللامبالاة إلى مسؤولية ما لم تتوافر إرادة لذلك، كل ما تفعله الكلمات هو الكشف عن الثغرات، لكن مهمة تجسيرها لا يتحملها الكاتب، كل ما تفعله الكلمات هو أن تبث الاهتمام بقضية، لكن ليست مسؤولة عن حلها، كل ما تفعله الكلمات أن تحلل وتكشف الحقيقة، لكن ليست مهمتها إجبار الجميع على الإيمان بها.

... إنَّ الكتابة مُهمَّة ليست سهلة، وأولئك الكتاب الذين أصروا على مواصلة الكتابة في ظل هذه الظروف، وفي ظل التصنيفات التي يقوم الآخرون بوضعها، كانوا يصرون على أن ينزفوا بشكل أسبوعي من أجل إيقاظ الوعي الذي سوف يستفيد منه الوطن؛ وبالتالي لابد من احترام هذه الرسالة النبيلة حتى لو لم يجمع الآخرون عليها، وحتى لو اتُّهم الكاتب بأنه غير وطني، عليه ألا يقلق؛ لأنَّ تعريف كلمة "وطني" ملتبس جدُّا، ولا يمكن التعويل عليه كمعيار في الحكم، وعلى حد تعبير كافكا "إذا كان الذي نقرأ لا يوقظنا من غفلتنا، فإذاً لماذا نقرأه أساساً؟"، لذا على الكتاب الاستمرار في إيقاظ الناس من غفلتهم؛ لأنَّ لتلك الغفلة ثمنا باهظًا في مُختلف جوانب الحياة، قد تجعل الناس يفقدون قيمتهم الإنسانية حيث لا إنجاز ولا هدف، ولا مصداقية ولا نزاهة، ولا قيمة ولا مبدأ، ولا اكتراث ولا اهتمام، فهل هذا ما نريده لأنفسنا ونحن نواجه كل هذه التحديات؟!