غَدٌ تحتَ أَنْقَاضِهْ

 

 

أحمد الماجد

 

عندما أضاعَ الفارسُ العربيُّ بوصلةَ الشمسِ وجد تحتَ قدميه خوذةً ملطخةً بالسرابِ ووردةً تَلْفظُ أنفاسَها، فجأةً صنَعَ الوهمُ حربًا والشكُّ رصاصةً وواجَهَ العبثُ مرآتَه فأغمضَ الرباطُ المقدسُ صفحاتِهِ الأخيرة. جهادٌ غادَرَ ملامحَ الجهادِ، وبندقيةٌ أضاعتْ كتفَ النبي وفوهةَ الحقيقة.

 

 على مسمعِ الفارسِ الأخير كانَ للأرضِ متنفسُ القصيدة..

 

 فارسٌ منهكٌ ورَجْعٌ ثقيلُ   لا الصهيلُ استعادَهُ لا الصليلُ

 

 غابتِ الأرضُ ليسَ إلا قصاصاتُ   غبارٍ وسادنٌ مستقيلُ

 

 من مخاضِ الهوانِ من صُلْبِ نقشٍ   ضاعَ عن معجمِ السلالاتِ جيلُ

 

 والمسافاتُ عاقرٌ مِنْ خُطاهَا   وَضَعَتْهَا مِنَ القُرُوْنِ الوحولُ

 

 حافرٌ يضربُ الصدى والتواريخَ   وفي ظلِّهِ استراحَ الصهيلُ

 

 طلعتْ شمسُهُ على جفنِ جُرْحٍ   تحتَ أنقاضِها وغابَ الرعيلُ

 

 عادَ مِنْ أمسِهِ الشراعُ خُيُوْطًا   نقضَتْ غَزْلَهُ العَرِيْقَ الطُّلُوْلُ

 

 سَئِمَتْهُ الرياحُ حتى أشاحَتْ   وَطَرُ الريحِ وانتصابٌ خَجُوْلُ

 

 مُدُنًا تَسْهَرُ الجراحُ على   راحَةِ خَيْباتِها ويغفو الهديلُ

 

 ويدورُ الرمادُ وقتًا ويأتي   الغَدُ أمسًا ويستتبُّ الذبولُ

 

 ويقولُ الرُّكامُ للأرضِ كُنَّا   يومَ كانَ الشذى وكانَ الخميلُ

 

 فَوْرَ أوتارِها تلاشَى صداهَا   وقَضَتْ نَحْبَ ما تَدُقُّ الطُّبُولُ

 

 أينَ غابَ المكانُ لا شيءَ إلا   قيحُ شَمْسٍ وعَتمةٌ وذُهُوْلُ

 

 وخِمَارٌ مِنَ الرَّمَادِ، بقايا   خوفِ أمٍّ وما رآهُ العويلُ

 

 يعرفُ الحزنُ كلَّ لهجاتِ هذا   الحَيِّ وهْوَ الفَمُ الكَسُوْلُ العَجُوْلُ

 

 فَتِّشُوا في الركامِ عَنْ بعضِ حضنٍ   بعضِ دِفْءٍ به يَقِرُّ الفسيلُ

 

 ربما قُبْلَةٌ على الأرضِ فَرَّتْ   قبلَ أنْ يُقْفَلَ الفَمُ السلسبيلُ

 

 قيلَ منْ أنتَ قالَ مِن هامشِ الموتِ   ومِنْ صفحةٍ رَمَاها الأفولُ

 

 عائدًا من مُذَكِّرَاتِ البراويزِ   على لوحةِ الغيابِ يَصُوْلُ

 

 للنبيِّ القتيلِ للحربِ للويلِ   يقولُ الخرابُ ما لا يقولُ

 

 عدْتَ يا فارسًا مَضَىْ ألفُ وَعْدٍ   عِمْتَ جُرْحًا وفاتَ خِصْبٌ بَدِيْلُ

 

 وعدُكَ الآنَ ساعةٌ دونَ وقتٍ   وخريرٌ مُحَنَّطٌ وذبولُ

 

 لم حَطَّمْتَ كلَّ أعتابِ ذاكَ الغدِ   والأمسُ عنهُ حانَ الرحيلُ

 

 لم قاتلتَ مُسْتَمِيْتًا أمانِيَّكَ   حاصَرْتَها فضاقَ السبيلُ

 

 لم حاربتَ حُلْمَها واقترفتَ   الصحوَ ما زالَ حُلْمُهَا يستحيلُ

 

 لمَ ضَحَّيْتَ بالزمانِ وأبقيْتَ   على جُرْحِهِ احتضارًا يطولُ

 

 لم أوثقتَ في الضَّلالِ مسافاتِكَ   والسامريُّ فيها يَجُوْلُ

 

 وتَحَامَلْتَ في المرايا على جِلْدِكَ   وَهْمًا تُسَلُّ مِنْه النصولُ

 

 ونصبتَ الصليبَ للأرضِ مِنْ   فأسِكَ أخشابُهُ وأنتَ القتيلُ

 

 ربما اعتدْتَ أنْ تراكَ ذَبَيحًا   وعلى كَتْفِكَ المرايا تَسِيْلُ

 

 لا تعدْ للمكانِ يكفي صليبٌ   واحدٌ للمسيحِ قالَ النخيلُ

 

 وبَّخَتْكَ الشموسُ، تَمْشِيْ إلى الليلِ   ومِنْ خلفكَ الصَّبَاحُ الجَمِيْلُ

 

 بِكَ منكَ انكسارُ دَهْرَينِ قل من   أي بابٍ مِنَ الخرابِ الدخولُ؟

 

 وإلى أينَ تصعدُ الشمسُ إنَّ   الجرحَ أعلى وصبحُهُ يستقيلُ

 

 سَقَطَتْ من أَكُفِّهَا الأرضُ تهذي   عِمْتَ فتحًا مهشَّما يا صليلُ

 

 باتَ مضمارُها حطامًا ولمَّا    تَحمِلِ الشمسَ للظلامِ الخيولُ

 

 هذهِ الدمعة التي منذُ حواءَ   وما زالَ خَدُّهَا يستطيلُ

 

 ورثتها الحياةُ جفنًا فجفنًا   وكذا يكبُرُ العذابُ السليلُ

 

 كلما شَفَّ عَنْ ذراريهِ جَدٌّ   بانَ في وَجْهِهَا الشحوبُ الأصيلُ

 

 يتربى بفكرةِ الجدبِ حتى   الماءُ مَبْكَاهُ غيمُهُ والهطولُ

 

 يئدُ الرملُ أمنياتِ السواقي   ونواياهُ لا تُجيدُ الحقولُ

 

 رَكَضَ الجرحُ والتواريخُ تَعْبَى   بينَ أحمالها وقوفٌ ثقيلُ

 

 لم توفرْ حكايةً شهرزادٌ   سَهِرَ الموتُ وانقضى ما تقولُ

 

 وقفتْ تُطْلِقُ الرصاصَ عليها    (كانَ يا ما..) يقصُّ جرحٌ أثيلُ

 

 ثُمَّ ماذا أنجمعُ الأرضَ بالشعرِ   سرابًا تنوءُ عنهُ العقولُ

 

 أنظُرِ الآنَ للسرابِ وأعتابُ   الخريرِ التي قَطَعْنَا تَزُولُ

 

 فَرَحٌ شابَ هاكِ جُرْحًا شَبَابًا   وامشُطِيْ كربلاءَهُ يا بَتُوْلُ

 

 معنا مِنْ غُرُوبِنَا الآنَ ما يَكْفي   السَّمَاواتِ فامتلئْ يا أصيلُ

 

  معنا دربُنَا على نَعْشِ مَجْدٍ   ومكانٌ على زمانٍ يَميْلُ

 

 حانَ هذا الصباحُ إلا ظلامٌ   تحتَ أنقاضِهِ بزوغٌ عليلُ

 

 كلُّ ألوانِهِ التي منْهُ تعلو   فوق بروازِها يَشِفُّ المُحُوْلُ

 

 عَقْرَبُ الوقتِ حافرٌ دونَ دَرْبٍ    وبقايا غَدٍ وأمسٌ طويلُ

 

 

تعليق عبر الفيس بوك