كُن كَمَا تُريد..!

 

هلال الزيدي

 

في يوم ما، وفي مكان ما، ومن بين الجدران الشفافة جاء محدثي مملوءاً على آخره من فرط ما رأى وسمع، فكانت رغبته أن يفرّج عما في يصدره يجول؛ ليصحح بعض المفاهيم التي وقع فيها بعض من البشر في تلك البقعة، فأراد محدثي أن يكون "فيصلا" ما بين الاعتقاد بأنّ الحياة هي لُهاث لبلوغ ملذاتها، وبين الارتكاز على مبادئ الفضيلة في التعامل حتى لا يكون قُربانا تأكله الألسن من كل اتجاه؛ لذلك فاضت مشاعره عن تجربة ودراية فانطلق يقول ويجول.

قال لي أحدهم ذات مرة: هل تعلم بأنّ هناك من لا يُريدني في هذا المنصب! مستدركا حديثه: بسبب أنّني لا أقبل الانحناء ولا يمكن أن أكون إمّعة يمارسون عليَّ سلطتهم ويضعوني خاتماً في إصبعهم فمتى ما شاءوا خلعوني ومتى ما أرادوا ثبّتوني.. لذا فأنا هامة تمرغت في حب الوطن وهامت في ذُرى عليائه، فطفقتُ أضع الخطط التي من شأنها أن تحفظ كرامة التاريخ وتتبلور مشروعات من أجل الأجيال المقبلة، ومع ذلك فلا زال هناك من يعتقد بأنّني شوكة في خاصرته توخزه كلما أراد أن يُبعثر بكفاءات هذا الوطن ليطمرها خوفا من طغيانها على المشهد العام..

أتدري لماذا أصبحت النظرة السائدة في مجتمعنا بأننا لا ننتج؟ ولا نستطيع مواجهة تحدياتنا؟ لأننا لم نترك هامشا من الحرية لنتفكر حتى نُثري الحواس الإبداعية، فقط سلمنا الأمر لمعالي الوزير" لأنه هو من يملك كل شيء وهو من قال هذا، وهو من يريد هذا الشيء؛ فالرؤية واحدة لا يمكن أن تتشكل معها رؤى وتطلعات أخرى، على الرغم من أنّه بعيد عن هموم المواطن وماذا يريد؟ لذلك جاءت رغباته بناء على متطلباته، وأنا هنا لا أُعمم؛ فالحق يقال أنّ هناك من استطاع تجسير الهوة واقترب من كل تفاصيل المشهد والجميع يشهد بسرعة وضع الحلول التي تخدم الشأن العام.
أيّها الصديق أتعلم ما هي الخسارة؟ الخسارة هي تلك التي كبدتنا طاقات كبيرة؟ نعم إنّها فادحة لأنه عندما استشعرنا المشكلة ووضعنا الحلول التي جاءت من خارج الصندوق، لم يكترث لها "المسؤول" وإنما لفظها خارج البوتقة وذلك بسبب خشيته أن يسجل التاريخ تغييرا قد يُبعده عن منطقة اتخاذ القرار، أو أنه بحكم عقله التقليدي لم يكن مواكبا لكثير من التغيرات.

 أيُّها السامع: إنني أبثُ حُزني على إنجازات كثيرة ذهبت أدراج الرياح بسبب تعنت "أحدهم" من أجل أن ينتصر لذاته ويستشعر هيبة مكانته.. لا أدري لماذا نتنكّر للفكرة تحت إطار الشخصنة المقيتة؟ لكنني لا زلت أتذكر ذلك الاجتماع الذي فاض بالأفكار لترتد فيما بعد إلى أدراج اللا عودة، فتصبح أثرا بعد عين.
أيُّها المنصت: تأكد أنّ لكل حقبة رجالا غيورين على كل شيء، فهم سيضعون النقاط على الحروف وتشكيلها نحوا وصرفا وبلاغة، ومهما كانت هناك أمواج عاتية تبعدني عن المشاركة في صنع قرار هذه المؤسسة فلا يمكن أن استسلم لأنني أعي واجبي، ولديّ يقين تام بأنّ الزبد يذهب جفاءً ويبقى ما ينفع الناس، وعلى أية حال ومهما بلغ التسلط والالتفاف لذر الرماد في العيون فإنني سأبقى شامخا قائدا لا منقاداً.
أيُّها الصديق: لا زلت أتذكر ذلك الكيان الذي صهر نفسه في إطارات متعددة ولم يترك شاردة أو واردة تمر دون علمه، حتى أوجد بطانة عميقة تُنكّس ذواتها كي يصعد عليها مقابل حفنة من مال أو شيء قليل من مسؤولية يتمرغون عليها باعتقاد أنّ الدنيا كلها حِيزت لهم، كم هي صعبة الأحاسيس عندما يعتقد الهائم في مجد المنصب أننا لا ندرك هيامه وتشبثه بقوائم الكرسي، ظنا منه أنّ القناع سينفعه ليختفي خلفه.

أيُّها المنصتون: أنا هنا لا أمارس دور المنقلب على عقبيه، أنا هنا أوضح مبادئ وقيم العمل لأولئك الذين يعتقدون أنّ قُربي من إطار اتخاذ القرار هو لتحقيق منصب أو بلوغ هدف، أنا هنا أسجل اعترافات للزمن بأنّني أجير في منظومة الوطن، وليس لديّ مخططات لأصبو إلى بعثرة مقدرات الوطن.
هكذا كان مُحدثي.. فعندما همّ بلملمة أوراقه المبعثرة في تاريخ تكوينه، استوقفته قائلا: مهلا أيُّها الغيور لقد كُنتُ مُنصتا إليك، مذعنا لحديثك من باب الرُقي بما تتحدث، ومن حسن الخُلق أن تستمع لما أقول، فلربما هناك اتفاق وتوارد أفكار، أو لعلّه يكون بيننا اتحاد يفضي إلى بناء توجهات تئد ذلك التسلّط الغاشم الجاثم فوق صدر الحرية، لأنّ الإثنين يصبحان ثلاثة إذا كانت مرتكزاتهم قوية لا تقبل الانفصام عن امتداد الوطن.

 

همسة:

لا تنظُري إليّ بطرف خفيّ وتذهبين.. فنظرتك بعثرت أوراقا كانت منسية.. فمن يُلملم بعثرتها...؟ فرياح رمشك عاتية وسهام معانيها عميقة.. فهل يا تُرى أقوى على تفسيرها.. فأنقاد لها طوعا وكرها؟ أم أنّني سأتجاهلها محتسبا ذلك من سقط المتاع؟ كل شيء جائز في زمن العجائب.

 

 

*كاتب وإعلامي

abuzaidi2007@hotmail.com