وجوه

سليمان الوهيبي.. الثابت أمام الريح

 

أحمد الهنائي

قطع مسافات شاسعة من فجر يومه الذي أضاءت معه كل الأحلام؛ الأمنيات تسابقه، وفتيل الوظيفة وروحانيات الراتب تدعوه إلى بناء خارطة ذهنية لمستقبله: زوجة جميلة وأطفال وادعون ومنزل فاره حتى وإن كان "البنك" سيقتطع جل راتبه. عندما تجاوزه أحد السائقين بطريقة مستفزة تكاد تعكر صفو وده في منطقة منع فيها التجاوز، تذكر والده وهو يحدث سليمان الوهيبي مدير "التوظيف" بالخدمة المدنية مساء البارحة.. إذن لا بأس بكل المنغصات الآن، فهو يقترب من تحقيق أمنيته الغالية بالعمل بعد سنوات من ملازمة "البيت" الذي لم يعد أن يكون فيه سوى صفر سالب وعالة على سكّانه.

المكان يعج بالمتقدمين وطالبي الوظيفة التي تمنعت عليهم كثيرا، وبينه وبين مدير التوظيف خطوات من ابتسامة، وحبل ممدود من صحبة طويلة بينه وبين أبيه، لكن الوهيبي عاجله بعد ترحيب وحفاوة بطلب اتباع الخطوات الرسمية المعتادة، وأن يمتحن مع الممتحنين. ابتسم القلب رغم المفاجأة: حتما إنّها تورية أريد بها خيرا، تفاديا لجذب الانتباه أو لترك مسافة من الاحترام والتقدير الداخلي والتحفيز المعنوي بإمكانية تجاوز المهمة.

عاد الأخير لممارسة عمله، في حين أنّه واجه صعوبة كبيرة في تجاوز الامتحان، الذي أعلنت نتائجه فور الانتهاء منه وفق نظام إلكتروني شفّاف، عاد إلى مدير التوظيف مجددا يعلمه بالنتيجة الصادمة، فما كان منه إلا أن حثه على بذل المزيد من الجهد في التحضير لاختبارات التوظيف ومتابعة الإعلان، وباعثا سلاما حميما لوالده، مع الاعتذار بلطف من استحالة خرق النظام، وهو ملتزم بالمبدأ الذي يؤمن به على الدوام أن "الواسطة" لا تأت بخير، وقد تحرم مستحقا من نصيبه، وتدفع بــ "الوطن" إلى مزالق هو في غنى عنها.

في الفترة التي قضاها سليمان في منصبه السابق جعل الكثير من الأصدقاء والأهل والمعارف يخطبون وده، ويكثرون من زيارة مكتبه، ليس وحدهم فحسب بل بعض من أعضاء مجلس الشورى الذين يجتهدون بحب وصدق شديدين في البحث عن وظائف لمن يقصدهم من أبناء ولايتهم، كذا الحال لبعض المسؤولين والزملاء، لكنه ورغم المغريات الكثيرة إلا أنه ظلّ صامدا على موقفه ينافح عن شرعية الإجراءات، حتى وإن ناله الكثير من الجفوة والمخاصمة من المقربين.

ضرب الوهيبي مثالا يحتذى في تغليب مصلحة الوطن على المصالح الخاصة، وهو بذلك يقدم دروسا مجانية لكل المرتشين والفاسدين ممن يستغلون مناصبهم لمصالح ذاتية أو فئوية، متجانفين للأضرار التي تلقي بتبعاتها على المجتمع، فكان حارسا أمينا للوظيفة، وضميرا حيّا يقف في وجه الدنيا وزخرفها، وحصنا منيعا ضد المنتفعين من خلاله. الكفاءة والقدرة والطرق الرسمية المتاحة هي السبيل الأوحد لكسب الوظيفة، وعليه تمكن من إرساء القاعدة المتينة للمعايير التي تنتهجها الوزارة بشفافية ومصداقية عاليتين.

بعيدا عن الوزارة، فإن سليمان يقضي جلّ وقته في القراءة ومتابعة مجريات الحياة لحظة بلحظة، ومتى ما نوقش في أي مجال، يفصح عن ثمين كنزه، ولا يزيده ذلك إلا تواضعا ورفعة، فلن تسمعه يوما يتفيهق بالثقافة وسعة الاطلاع، وفي الوقت نفسه تشعر بحرج شديد إن ما تحدث في تخصصك بما سبر من أغواره واكتنف من أعلامه.

وجدته بصدق، أحد المؤثرين في محيطه، وأنموذجا مضيئا من الشباب العماني القادر على المحافظة على أخلاقيات العمل وشرف المهنة، فهو أول الداخلين إلى الوزارة صباحا، ولعله كذلك آخر المغادرين، والأكثر حرصا على إنجاز ما يقع تحت يديه وما يناط به من مسؤوليات.

 

 

 

Oman1995@hotmail.com