الدولة والمواطنة.. في ظل ظهور المجتمع الضريبي

 

 

د. سيف المعمري

لم يكن أحد يتخيَّل أن عمر الدولة الريعية في الخليج سيكون قصيراً، وأن الأجيال التي ولدت والنفط يتدفق بغزارة سوف تستعيد التاريخ الذي عاشه جيل الآباء والأجداد، وأنهم سوف يشهدون بداية انتكاسات اقتصادية لا أحد يعرف اليوم آثارها وتداعياتها الكبيرة ليس على الفرد فقط، إنما على الدولة في الخليج التي قامت وترسخت قوتها بفضل تحكمها في عوائد النفط الكبيرة التي كانت تأتي من مختلف أنحاء العالم الذي لم يكن قادرا على إشعال مصباح بدون نفط الخليج، وبفضل هذه الأموال صاغت الدول الخليجية علاقة المواطنة مع مواطنيها بحيث يحصل الفرد على منافع اقتصادية ليس وفق معيار الإنجاز والإنتاج، إنما وفق القرب أو البعد من دوائر اتخاذ القرار؛ وبالتالي قتل هذا النهج الدافعية للعمل ليس على مستوى الأفراد إنما على مستوى المؤسسات التي بدأت تعمل وفق الحد الأدنى من مسؤولياتها؛ لأنَّ المحاسبة التي تعبر عن الإرادة العامة غيَّبت مما قاد إلى إهدار عشرات المليارات في مشاريع ليس لها عائد تنموي بعيد المدى، ولم يكن للمواطنين حق في التعبير عن مخاوفهم من هذا النهج؛ لأنَّ مثل ذلك النهج يعبر عن مشاعر سلبية لا تحمل امتنان للخدمات الاجتماعية التعليمية والصحية التي يحصل عليها هؤلاء المواطنين؛ حيث تحولت العلاقة السياسية بين الفرد والدولة إلى علاقة خاصة قد تكون أبوية أو أخوية تحكمها معايير الحياة الشخصية لا معايير الحياة السياسية، والأصل أن الحكومة وجدت من أجل خدمة الشعب، فإن أحسنت في إدارة الثروات الوطنية فذلك مؤشر على قيامها بمسؤولياتها أما إن لم تقم بذلك؛ فذلك مؤشر تقصير يجب أن تتم المحاسبة عليه، ولكن مضت العقود وفق هذه العلاقة غير المتوازنة التي يراد اليوم تصحيحها من خلال فرض ضرائب مباشرة على المواطنين؛ مما يؤشر على ظهور مجتمع خليجي جديد خلال السنوات المقبلة هو المجتمع الضريبي أي المجتمع الذي يدفع من أجل الخدمات التي تقدم له، والسؤال الآن: هل ستبقى علاقة المواطنة كما هي في ظل تغيُّر طبيعة الدولة والمجتمع في الخليج؟ ويقصد من ذلك أن الدولة ستكون عاجزة عن توفير الأموال التي كانت تساعدها في التحكم في الشأن العام، والمجتمع لم يعد ذلك المجتمع المتلقِّي إنما سيكون مصدر توفير الأموال من خلال الضرائب المباشرة أو غير المباشرة والتي يفترض أن ينفق من خلالها على مختلف الخدمات التي تعود للمواطنين.

ويبدو أنَّ هذا السؤال وغيره من الأسئلة العميقة المتعلقة بالدولة والمواطنة في دول الخليج لا أحد يرغب في طرحها حتى وإن كان ما يجري يلح في طرحها من أجل الحوار بشأنها، وتيسير عملية الانتقال إلى هذه المرحلة الجديدة التي ستقود إلى ولادة مجتمع مُختلف عن المجتمع الذي ظهر في الخليج منذ الصف الثاني من القرن العشرين، والذي أطلق عليه بعض الباحثين "مجتمع النفط"؛ تمييزا له عن المجتمع الذي كان سائدا من قبل، وهو يحمل مسميات متعددة تبعا للمهنة السائدة التي يمارسها السكان؛ سواء كانت اللؤلؤ أو الرعي أو الصيد؛ حيث كان المجتمع يدير مختلف شؤونه ويتضامن بطريقة توفر له احتياجاته المختلفة، وحيث كان المعلم موظفا لدى المجتمع لا عند الإدارة الحكومية التي كانت تنشئ مدارس يلتحق بها أبناء النخبة التجارية والحكومية وأبناء بعض شيوخ القبائل؛ لذا كان المجتمع فاعلا في الشأن العام موظفا العوائد التي يحصل عليها في الإنفاق على الخدمات البسيطة التي يحتاجها، وظهر النفط وولد عوائد ضخمة جعلت الحكومة تتولى الإنفاق على تلك الخدمات عن المجتمع مقابل عدم التدخل في آليات أنفاق المال العام وإدارته، وكانت مرحلة غيرت من بنية الدولة والحكومة والمجتمع، وقادت إلى قطيعة مع كثير من القيم المجتمعية التي تنطلق من الاعتماد على الذات إلى الاعتماد على الآخر في عملية التنمية، وعملت على بناء تضامنية سياسية تقوم على تحالف ثلاثي لإدارة الدولة والمجتمع يتكون من السياسي التجاري الديني وهو تحالف تمكن من استنهاض "بقبقة" مكونات المجتمع لدعمه، بغض النظر عن الإشكاليات التي يواجهها المجتمع، ولكن هل يمكن أن يستمر ذلك في ظل ظهور مجتمع الضرائب، أم أن هناك تحولا في علاقة المواطنة يشبه ذلك التحول الذي شهدته كثير من الدول الأوروبية في بداية العصور الحديثة؛ حيث رفع شعار مهم جدا وهو لا ضرائب بدون تمثيل، ويقصد بالتمثيل هنا المشاركة في إدارة الشأن العام بطريقة تحقق صالح المجتمع وتوفر له الرخاء المقنن بدلا من أن تجعله عرضة لتفاوتات مادية حادة نتيجة التوجه لفرض الضرائب مما يقود إلى تداعيات حادة على الوحدة الوطنية وحالة السلم الأهلي على المدى البعيد، وهو القلق الذي تم التعبير عنه في كثير من المراكز البحثية، والأجدر أن يطلق بشأنه حوارات في المنطقة بغية تجنب تحقق الافتراضات المحتملة في تأثير الأزمة على إعادة رسم صورة المواطنة في الخليج.

لا شكَّ أن مثل هذا الطرح الاستباقي قد ينظر إليه بأنه قفزة إلى المجهول الذي لا يمكن أن يتنبأ به أحد في عالم السياسة، ولكن الأزمة الاقتصادية قد لا تؤثر كثيرا في المجتمعات الصناعية التي تمتلك مخزونا مدنيا تاريخيا لممارسة المواطنة، وتمتلك أدوات التواصل المتكافئ في علاقة المواطنين بالدولة، لكن في المجتمعات التي تفتقد لهذا المخزون، فإن هناك مخاطرة كبرى في التقليل من تأثير هذه المعطيات على رابطة المواطنة؛ لأنَّ العلاقة ظلت محكومة بمعايير اقتصادية قبل أن تكون محكومة بوعي مدني يسمح لمكونات مجتمعية مختلفة بالنمو وممارسة المواطنة، ويقود إلى الاعترف بأهمية إسهامها في التأسيس لمواطنة منتجة ومتساوية تجعل الجميع يلتقون حول نفس الرؤى بشأن تعزيز المواطنة والمضي بهذه الأوطان لتكون مجتمعات مدنية لا تنسى جذورها القبلية وعاداتها الشرقية، ولكنها تكبحها إن وجدت أنها تعيق نمو مواطنة تحرك الجميع نحو أهداف واحدة.

إنَّ المتابعين للشأن الخليجي يرون أن الدولة في الخليج لن تسمح بأن يعاد ترسيم حدود علاقة المواطنة تحت أي ظروف كانت، كما أن المجتمع الذي تعود على أن تقدم له الدولة بعضا من عوائد النفط في شكل خدمات أيًّا كانت جودتها لن يتحمل أن يطلب منه أن يدفع لتلك الخدمات أو يقتطع من دخوله الشهرية التي لا تزال غير قادرة على تأمين متطلبات الحياة في ظل الغلاء الذي ولدته السياسات الاقتصادية في المنطقة، وإذا ظل كل من الدولة والمجتمع يتمركزان في موقعيهما ويرفضان التكيف مع الواقع والتنازل عن بعض ما يعتبرانه حقوقا مطلقة له، فنحن أمام فضاء مفتوح على كل الاحتمالات التي سوف تؤكدها أو تفندها السنوات القريبة المقبلة.