"الأُلفَةُ تُذهِبُ الدهشة!"

 

هلال بن سالم الزيدي

بعد مقالي الفائت حول الدهشة وما تُثيره من استغرابٍ في خضم تباين واتِّساع الفجوة الاجتماعية، كان لا بد من ردود أفعالٍ متفاوتة ـ ولكثرتها ـ فهي تبحثُ عن أسبابِ ومسببات الدهشة وما تعنيه، لذلك جاءت فكرة هذا المقال لزرع بذور التآلف حتى تختفي علامات التَّعجب، وهي في حد ذاتها شيء من مراجعة الذات، عبر مد جسور التَّقصي والبحث عما يُثير الدهشة، لذلك جاءت القريحة لتستقر بين ضلعي القصد، والإغراق في تحليل المقصد من أجل فهم ما لا يُمكن فهمه.

"شيءٌ ما يُثيرُ الدهشة"، مقالٌ جنح إلى عوالم كبيرة وممتدة بامتداد الوطن العربي الجريح والمتساقط أو الميت سريريًا، ومتصلة بامتداد زُرقة الخلجان، ومتجذّرة في كل بقعة يتنفس بها "الإنسان".. وصالحة لكل مكان وزمان، فالرؤية كانت عميقة كلُجج البحار في اتِّساعها، والنظرة كانت متباينة كتباين الفكر العربي من الخليج إلى المحيط.. فسبحت الأفكار عبر مجاديف الأمل وقاومت انحراف المبادئ وتسلط الذات بتوجيه البوصلة نحو هدف واحد، لذلك كانت وجهتها إلى مفاهيم متنوعة، فكل شخص وجد فيها ذاته، وأسقط عليها مرئياته، فكلٌ غرّد بما يهوى.. وكلٌ فسّر بما يرى.. فتقاطرت الغمزات من كل حدب وصوب، واورورقت الهمسات في العرض والطلب .. فمنها حمل الغزل والحب، ومنها أراد معرفة السبب، إلا أنّ تلك المعطيات أعدُها دليلاً بأن الرسالة وصلت ونضجت وفُسّرت بأمور شتى.

وبعد تلك المجسات والهمسات، غزتني فكرة التفسير الذي يُغرق فيه الأفراد، لأنه أصبح من المسلمات لأيّ حركة أو حتى لأيّ سكون، فلا بد من أن تُصاحب بتفسير وتبرير، واختلاف وتعزير، والدخول في التشخيص الدقيق للوصول إلى الشخصنة، ليصبح الجميع مقصودين من تلك الظاهرة أو الحدث الواقع، وكل ما يؤدي إلى الشيطنة، وبالتالي نصل إلى مرحلة عميقة من التعليل وذكر الأسباب التي جعلت ذلك الشيء يحدث، لنتحول إلى ذروة الخلاف والصراخ والشتم والسباب، ومنها تتدهور العلاقات الإنسانية، وكل ذلك مرده إلى تفسير لم يأت في محله.

أما التفاسير الأُخرى والتي تدور في كنفِ الفِكرة أو الشيء المُثير للدهشة فربما تصل في معناها إلى المثل القائل :"وفَسْرَ الماء بعد الجهد بالماء"، الذي يدل على الإغراق في تفسير الشيء المذهل بدون جدوى أو فائدة. ولعلّ هذا النوع هو السائد في بيئات مختلفة، فتبدو في ظاهرها المودة لكن في داخلها الشيء العسير الذي سيُبدل صيغة التعامل مع فئة أو فرد، ومهما كانت الظنون إلا أنَّ التعامل مع الظواهر أو المقاصد التي تأتي في حلة العموم ما هي إلا منبهات تقرع جرس الإنذار حول حوادث معينة تنحرف عن شفافية المنطق ونزاهة العقل.

إنّ التعددية في التفاسير وإطلاق الآراء بتباينها لهو من الأمور الصحية، من أجل حمل الموضوع أو المقال إلى أبعد حد من الفائدة كونه ناقش قضايا مُتعددة تحت سقف واحد وبتعدد الإسقاطات التي من شأنها أن تُعطي البعد الأدق في التعليل، لذلك فقد شاءت الأقدار أن يكون هناك ما يقرب من عشرين تفسيرا للدهشة التي حملها المقال بين فقراته، وكلها تتفق على أن الإنسان مُعرّض أينما يكون لكثير من الصعوبات والتحديات وربما السحق ليعتلي عليه آخر ربما يكون من جنسه، أو خلاف ذلك.

هناك الكثير من الأمور تُشكّل الدهشة في الوهلة الأولى، لكن عند التركيز فيها والعودة إليها مجددًا فإنّها تبدو حقًا طبيعية، وربما مألوفة. كما أنّ هناك تعابير تصف واقعاً معاشاً لدى البعض، فتكون الإسقاطات جريئة فيتأثر "س" من الناس ويراها وصفاً دقيقًا له، وهذا بحد ذاته تأكيد على وجود الخلل، وصحة التحليلات، لذلك فهذا يقودنا إلى المرحلة التي تغيب فيها الدهشة، والاندهاش والتعجب، وهي مرحلة التآلف والتقارب الفكري، وهنا نقول وبحسب المثل العربي" الألفة تُذهب الدهشة" فهو مثل نابع من واقع معاش على مختلف عصور الإنسان.

كل ما يثير علامات الاستفهام وتتعدد حوله التفاسير، فهو مُثيرٌ للجدل، وبالتالي يحتاج إلى وقفةٍ تحليليةٍ تستقصي ما تؤول إليه الفكرة بعيدًا عن صخب المجاملات المفضية إلى تغييب المصلحة العامة. كما أنّ مقياس "الوجع" هو أحد مؤشرات الاستجابة التي تحتاج إلى روح الشفافية، والاعتراف بوجود ضعفٍ.

لذلك ومن أجل تجاوز مسألة الدهشة التي تثيرها أقوالنا وأفعالنا، ما علينا إلا أن نتآلف، "فالألفة تُذهب الدهشة"، وهي حكمة مبنية على متانة القاعدة التي نتكئ عليها في قبول الآخر، مهما كانت الفروقات "البشرية"، وبالتالي، التقارب في الفهم وإدارك من حولنا جزء لا يتجزء من بناء منظومة العطاء والأخذ في آن واحد، لتتشكل نواة المجتمع المتكافل في أبعاده كافة.

همسة:

رسالة جاءتني تقول: "شيءٌ ما يُثير الدهشة" مقال يضرب في الصميم لأهل السلطة وما بهم من سقيم، وعمق الكتابة تلفت النظر وتجلب الدهشة وتثير الجدل، لذلك راقت لي لجمال تعابيرها وبساطة مفرداتها.. ونحن نتابع بصمت.

 

 

كاتبٌ وإعلامي

abuzaidi2007@hotmail.com