لا تستهين بحزن أحد فلا تعلم قدر ما فقده

 

 

أحمد المجرفي.. 

‏أتتني أخت في الله يوماً فقالت مالي أراك ضائق الصدر ملتاع الخاطر كأن حزنك غطى روحك ونقاءها وقتل كل شيء جميل فيك؟ قلت: وأي جمال في الحياة بعد أن ودعت أختي من الدنيا وهي في عمر الزهور.. آلمني ذلك الفقد وأعيا حالي وبت مترنم الخاطر وأي لغة هي من تترجم ما بين حنايا قلبي، فليس اعتراضاً في حكمه حاشى وكلا وإنما اشتياقا ولهفة حنين قالت: فكيف ولو عرفت بمصابي وما هو ألمي في هذه الحياة، قلت لها: وما هو ألمك يا أختاه دعيني في حلٍ من خطأ مصابي وأرى ما علتك أعظم من علتي؟ قالت سأتلوه عليك فلي من الوجع ثلاثاً سأسردها عليك واحداً تلو الآخر؟ قلت لها لك ذلك يا أختاه.

قالت: فأما الأول فأطفئ نوري في الدنيا وأشتدت وحشتي عندما ودعت أمي التي كانت سندي وعضدي، فالبوح في ذلك شنق صمتي ونزف جرحي، فلم تبق غير ذكرياتٍ ترسبت في أعماق دواخلي، ومنذ فراقها أصبحتُ أتذوق حنظل الانكسار، وعتبات الهبوط والانهيار، وأحسست بوجهٍ مشوه، ويكسو أيامي رداءَ الليل هي عندما انتزعت مني أجمل الأحبة وأغلاهم مكانة

بربك أخي الكريم كنت أعيش وأنظر لحظة فراقها بعيني عن هذه الدنيا فكانت تحتضر، كنت جنبها أبكي بحرقة وألم خائفة فقدها وأبي جالس عند رأسها يلقنها الشهادة لترفع أصبعها وتهمهم بـ لا إله إلا الله محمد رسول الله، فاضت من عينها دموع صفراء نطقت هيهات هيهات أن تروني بعد اليوم، بعدها فارقتني جنتي فالدنيا ورحلت، فاضت روحها ليتها فاضت روحي قبلها، فانطفأ قنديل الأمل من حياتي وأحرق نار الفراق أحشائي.

قد كنت لا أرضى التباعد برهةً

كيف التَّصْبر والبُعاد دهور

أبكيك حتى نلتقي في جنةٍ

برياضِ خُلدٍ زينتها الحور

فأما الأمر الثاني: لم يقف ألمي إلى حد السكون بعد رحيلها فقد تقاذفتني رياحٌ زعازع يجرها الألم وتجرعها البلايا والندم، كان لي أخ يصغرني سناً كان يناديني بـ أمي الثانية، إلا أن هاجس الألم بدأ يدق ناقوس الحياة ليعلن الموت بعد رحيل أمي بـ 8 شهور رحيل ذلك الأخ الذي هزّ عرش روحي وأبكاني وطمس فراقه سعادتي وأعياني، قبل موته بيوم واحد اتصل بي هاتفياً يريد سماع صوتي وكأنه قد أيقن برحيله ليقول لي أنت أمي، فقد كان رحمه الله تعالى في رأس عمله يكافح ببذل ونبل من أجل وطنه، وكأن الدنيا ترفض الكرماء والشرفاء أن يعيشوا فيها، فشاءت عناية المولى عز وجل أن تصطدم بهم سيارة على طريقهم وتفيض روحه الطاهرة إلى بارئها.

 

يا كوكبا ما كان أقصر عمره

وكذاك عمر كواكب الأسحار 

 

رحل ورماني ذلك الحزن في قاعٍ عميق مظلم جعلني أجوب فيافي الألم والمعاناة دون بصيرة

 

لما رأيتك قد أدرجت في كفنِ

مُطَّيباً للمنايا آخر الأبدِ

أيقنت بعدك أني غير باقيةٍ

وكيف يبقى ذراعٌ زال عن عَضُدِ

 

فأما وجعي الثالث: فقد كُسرَ ظهري وزادت لوعتي وانتحرت ابتسامتي عندما سلبتني الحياة أغلى كنز فيها إنه "أبي"، فموته هدَّ قواي واعتصر قلبي المجروح بمرارة فقده ولوعة اشتياقه، كنت أرى أبي منذ رحيل والدتي وأخي يجلس على عتبات الألم عند زاوية الغرفة تجوب وتندب في داخله الذكرى التي نام بداخله رحيل من سكنو قلبه وتجرع من بعدهم كأس الفراق وعلقم الفقد ولوعة الوداع وكان يُسْكِب عبرات حرَّى تفيض من مقلتيه دموع سَخينة تنساب على لحيته البيضاء، لكنه مع ذلك رضي بما قسمه الله له في الدنيا.

في صباح يوم مشرق تسلَّق أحد النخيل ليأخذ رزقه منها لكن إرادة الله حالة دون بلوغه ذلك الرزق فسقط من تلك النخلة دخل على إثرها المستشفى وأصيب بكسر فالحوض وجلطة في الأوردة المصاحبة للحوض في حين أن الشاهد في ذلك الأمر هو أننا كنا نجهل وجود الجلطة في حينه والشائكة في الأمر هو عندما تم نقله قد تحركت الجلطة من مكانها مما جعلها تستقر في الرئتين.

ما زاد حزني حزناً وذرفت دموعي عبراتٍ وحسرات هي عندما حملوه نظر إليَّ نظرة أبٍ حنون وابتسامة ملأها الدنيا وما فيها ليقول لي لا تخافي يا بنتي فإنّي بخير فاطمأنت نفسي لما قاله، وما هي إلا لحظات بسيطة ورجعوا به جثة هامدة، تساقطت حروفي قتلى وشهقت معانيها ثكلا من هول الموقف وشدته، ففقده أعيا العقل وحير الفهم، رجفت خلاله يدي عبثاً، وقلبي فطر حزناً وألماً، 

فيا من غاب عني وهو روحي

فكيف أطيق من روحي إنفكاكا

حبيبي كيف حتى غبت عني 

أتعلم أن لي أحدٌ سواكا

 فانظر يا أخي من كان سبباً في منبع السعادة وجريان الراحة والطمأنينة ومصب السرور والبهجة لي في الحياة هم أطباق التراب الآن، رحل بذلك الشمس والقمر وتبعهم كوكب مضيء فتلك هي أكبر الجروح في الحياة وهي لا تلتئم، وباقية ما بَقْيتُ في الدنيا فحالي يقول:

كيف السبيل وقد ضاقت بنا الدارُ

أم كيف أصبر والأخيار قد سارُ

وموطن الأُنس أضحى ساكنهُ

مستوحشاً حينَ غابت عنهُ أقمارُ

قلت لها: كممتي فاهي بمصابك يا أختاه فوالله لهي أكبر الجروح ألماً وأعتاها شدة وحدة هي عندما جرعتك سُمَّ الفراق دون تلاق؛ فرحم الله موتاكِ يا أختي وموتى المسلمين ونور الله مرقدهم وفي جنان الخلد أرقدهم وجمعنا بهم في الجنات وأسكننا معهم في الرحمات إنه سميع مجيب الدعاء.

تعليق عبر الفيس بوك