الاختراق الإسرائيلي للخليج

 

زاهر المحروقي

انتقلت إسرائيل من كيان مغتصِب وعدو، إلى دولة أساسية في المنطقة، تسعى إليها الدولُ العربية خاطبةً ودَّها، بسبب قوَّتها وتطوُّرها التقني، لمواجهة عدو مشترك تراه هذه الدول، هو إيران.  

في تفسيره "في ظلال القرآن"، يشرح سيد قطب معنى الولاية التي نهى الله المؤمنين أن تكون بينهم وبين اليهود والنصارى في معرض شرحه لسورة المائدة، ويرى أنّها تعني التناصر والتحالف معهم، إذ التبس على المسلمين الأوائل أمره، فحسبوا أنّه جائز بحكم ما كان واقعاً من تشابك المصالح والأواصر، ومن قيام هذا الولاء بينهم وبين جماعات من اليهود قبل الإسلام وفي أوائل عهد الإسلام في المدينة، حتى نهاهم الله عنه وأمر بإبطاله، بعدما تبيّن عدم إمكان قيام الولاء والتحالف والتناصر بين المسلمين واليهود. ولكن كيف الوضع الآن وقد جاء اليهود من كلِّ بقاع الأرض واستوطنوا في الأرض الفلسطينية واحتلوا مقدسات المسلمين وقتلوا وشرّدوا من الفلسطينيين من قتلوا وشردوا؟

إنّ عبارة "نَخْشَى أَن تصِيبَنَا دَائِرَة" الواردة في هذه الآية القرآنية الكريمة من سورة المائدة (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ)، يبدو أنّ هناك من المسلمين من يتصرف على ضوئها حتى الآن، فاعتقدوا أنّ الهرولة إلى إسرائيل ضمانٌ من كلِّ دائرة؛ فقد شهدت نيويورك بالتزامن مع اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، لقاءات جانبية وندوات اندرجت في سياق التطبيع العلني مع إسرائيل، حيث عَقدت شخصيات رسمية وأكاديمية عربية لقاءات مع مسؤولين إسرائيليين من بينهم تسيبي ليفني، عضوة الكنيست ووزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة. وجاءت هذه اللقاءات عبر ندوة نَظَّمتها مجموعة "متحدون ضدّ إيران نووية"، والتي تضمّ في صفوفها شخصيات أمريكية مؤيدة لإسرائيل، وحضرتها شخصيات عربية وخليجية تحت عنوان مواجهة "الخطر الإيراني"، ممّا يدلُّ على ذوبان الجليد في العلاقات الإسرائيلية الخليجية. (يمكن للقارئ أن يتابع الكلمات التي ألقيت في تلك الندوة، ومن شارك فيها من الخليجيين عبر مواقع النت، وهي متوفرة)

كان بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي محقاً وهو يعلن من على منبر الأمم المتحدة أنّ "التغيّر الكبير في علاقات إسرائيل يحدث الآن مع الدول العربية، وأنه للمرة الأولى في العالم العربي يعترفون أنّ إسرائيل ليست عدواً بل حليفاً"، وكانت ليفني أنشط من قام بدور سفير التطبيع وبشكل مكثّف؛ فقد روّجت في أكثر من مناسبة أنّ إسرائيل لم تعد عدوّاً لبعض الدول العربية، مستغلّة التواجد الكبير للمسؤولين البارزين على هامش اجتماعات الجمعية العامة، وظهر ذلك بشكل واضح في محاضرة لها، دعا إليها قسم الدراسات العبرية واليهودية في جامعة نيويورك، وحملت عنوان "إسرائيل في شرق أوسط متغيّر"، كرَّست فيها ليفني فكرة أنّ الصراع اليوم لم يعد بين العرب وإسرائيل؛ بل بين بعض الدول العربية وإسرائيل من جهة وإيران من جهة ثانية، وأنه "للمرة الأولى لدى إسرائيل ودول عربية وإسلامية أخرى المصالح نفسها والتهديدات نفسها، فيجب أن تتحدّ إسرائيل وهذه الدول العربية "المعتدلة" وتنشىء محوراً واحداً وجبهة واحدة ضد كلِّ هؤلاء المجانين في المنطقة"، حسب  تعبيرها. وذهبت إلى أبعد من ذلك، عندما قالت "إنّ الزعماء في العالم العربي يدركون أنّ إسرائيل لم تعد عدواً، لكن لا يمكنهم القيام بشيء علني مع المسؤولين الإسرائيليين، لأنهم سيُتّهمون بالعمالة أو بالتخلي عن القضية الفلسطينية"؛ وعبارةُ ليفني هذه قد لخَّصت الموضوع برمته، فقد أصبحت القضية الفلسطينية الآن عالة على العرب، فيما أصبحت إسرائيلُ هي الحليف، وإيرانُ هي العدو؛ وفي ما يكتبه مارك والاس مؤسس "متحدون ضد إيران نووية" يشير إلى ذلك، فهو يكتب صراحة أنّ أهمّ أسباب الوقوف ضد طموحات إيران النووية، هو "إيقاف دعمها لحزب الله ولمنظمة حماس الإرهابيتين" حسب تسميته. والغريب في الأمر أنْ  يتم التركيز خليجياً على إيران غير نووية، دون الاهتمام بنزع سلاح إسرائيل النووي.

في حديث نشرته صحيفة "المصري اليوم" عدد الثلاثاء 19/10/2016، قال الجنرال أنور عشقي "إنّ إسرائيل هي عدوٌ عاقل، وإيران صديقٌ جاهل. وعدوٌ عاقل قد يكون أفضل من صديق جاهل"؛ وعندما سئل عن لقائه مع مدير عام وزارة الخارجية الإسرائيلية، ولقاء آخر بين الأمير تركي الفيصل، مدير المخابرات السابق بالجنرال يعقوب عميدرور مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق، هل هذا يُمهد لتطبيع العلاقات السعودية - الإسرائيلية على المدى القريب؟ أجاب "إنّ السعودية دولة كبرى في المنطقة، وهي طرف فاعل في كافة القضايا الإقليمية، وهذا الدور يستوجب التنسيق مع كافة الأطراف الفاعلة في عملية تحقيق السلام الشامل في المنطقة بما فيها إسرائيل". وقد سبق لصحيفة "هاآرتس" الإسرائيلية أن نشرت تقريراً تضمّن معلومات عن مدى تغوُّل الإسرائيليين وانتشارهم في الخليج، منها أنّ الشركة الدولية السويسرية (AGT)، التي أسسها ويديرها رجل الأعمال الإسرائيلي الأمريكي ماتي كوخافي، فازت بعقد تصل قيمته الى مئات الملايين من الدولارات لبناء مشروع كبير لمصلحة جهاز الأمن الداخلي في إحدى الدول الخليجية، ويعمل في المشروع العشرات من الضباط الذين خدموا في الجيش الاسرائيلي، بالإضافة إلى كبار المسؤولين السابقين في الصناعات الجوية وفي جهازي الموساد والشاباك (المخابرات الداخلية)، والأهم من ذلك أنّ الصحيفة ذكرت أنّ الشركة المذكورة تعمل بتنسيق وتوجيه كاملين من قبل وزارة الحرب الاسرائيلية، وأنّ مدير الشركة كوخافي يحمل الجنسية الإسرائيلية. ويرى الكاتب فهمي هويدي أنّ أولئك الجنرالات الذين لا يزالون يعملون بالتنسيق مع قيادة الجيش الإسرائيلي ليسوا من فاعلي الخير، ولا يقدمون "استشارات" فحسب؛ ولكنهم موجودون في قلب الأجهزة الأمنية الخليجية، ومن السذاجة أن نعتقد أنهم لا يقومون بمهمة استخبارية لمصلحة بلدهم، حيث من الطبيعي أن يؤدوا هذا الدور، إذا لم تكن تلك مهمتهم الأساسية.

"إيران" هي القضية الأساسية التي جعلت الاختراق الإسرائيلي لدول الخليج ممكناً وبكلِّ سهولة. ومن يقرأ الدراسة التي أصدرها مركز أبحاث الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب، تحت عنوان "عدو عدوي صديقي" يصل إلى تلك النتيجة؛ فقد لفتت الدراسة إلى أنّ الاطلاع على وثائق ويكيليكس تؤكّد أنّه جرى بين عاصمة خليجية أساسية وتل أبيب حوار سريّ حول القضية الإيرانيّة، فيما أثبتت الوثائق أنّ العديد من الشركات الإسرائيليّة تقوم بمساعدة الدول الخليجيّة في الاستشارة الأمنيّة وفي تدريب القوات الخاصّة وتزويدها بمنظومات تكنولوجيّة متقدّمة، علاوة على لقاءات سريّة ومستمرة بين مسؤولين كبار من الطرفين. وتبينّ الدراسة أنّ إسرائيل قامت بتليين سياسة تصدير الأسلحة إلى دول الخليج، في رسالة واضحة لهذه الدول أنّه بالإمكان التعاون عوضاً عن التهديد؛ وأشارت الدراسة أنّ الدول الخليجيّة تعرف مدى قوة إسرائيل في أمريكا ومدى تأثيرها على قرارات الكونجرس، وبالتالي فإنّ هذه الدول ترى أنّه من واجبها الحفاظ على علاقات معينّة مع تل أبيب، ولكن العلاقات الطبيعيّة لم تصل حتى الآن إلى موعدها، ذلك أنّه بدون إحداث اختراق في العملية السلميّة مع الفلسطينيين، لا يُمكن التقدّم أكثر في العلاقات.

قبل فترة، سأل الباحث د. محسن الكندي، أ. محمد فائق سكرتير الزعيم عبد الناصر للشؤون الأفريقية عند زيارته لمسقط: إلى أين يتجه العرب؟ فكان جوابه قاطعاً: إلى تل أبيب!. وللأسف فإنّ هذا مؤلم، ولكن عندما يهتز أيُّ بيت من الداخل، فكلُّ أجهزة إسرائيل الأمنية لن تحول دون سقوطه.