بَيْن اللسان والعقل

مُحمَّد المسروري

التلاسن بالقول تارة وبالهمز واللمز أحيانا،  لا يأتي نتاج فكر واع، بل وفي غالب الأحايين  بغير ما رأي، ذلك لأنَّ مصدره اللسان وحده وليس للفكر والعقل شأن بتفوهه وتلفظه حجما أو رجما، نتاج مشوه ليس لأنه لا ينتمي إلى عالم الحقائق في حال، ولكن لأنه غير مُتسق في كل ما حدثه وتحدث به، وليس مع واقعه الشخصي والانتماء المكاني والفكري إن كان له في ذلك ثمة شأن، ولكن مع نسق الحياة العامة لبني البشر أحمرهم وأصفرهم أبيضهم وأسمرهم، صبغة الله، بصرف النظر عن ثقافاتهم ولغات سطرت بها تلكم الثقافات ووسائل وأدوات تكرست بها وبأحرفها،  ووسائل تحريزها وتحرزها، ولكنه كما ظهر أواخر الأوان أنه أمر  مستساغ من البعض الذي همه في الأساس تلقي ما يأتيه ليعيد توزيعه ونشره عبر كل وسيلة أمكنه الوصول إليها؛ باعتباره (انتحالا) مُنتج أوحد للتلاسن ذاك، يُقهقه فرحا طربا وهو بدون شعور يرثي حالة من البؤس واليأس بلغها دون أقل تفكير واع أو حساب للمآلات التي ستكون عليها؛ لأنه في الواقع كان لسانا مُتحدثا بغير وعي من شعور لحساب مضامين فيض اللسان عنده .

وشخصيا.. لا أميل إلى إجترار ما قاله كتاب وأدباء العصور من سبقونا أو حكماء تلكم العصور، لا ترفُّعا على قاماتهم، ولكن احتراما لمكاناتهم في عصور عاشوا همومها وتشربوا بأفكارها وتطلعاتها، وأنا أعيش اليوم واقعا يختلف بكثير من تفاصيله عن حال كانوا عليه، ولكني أتشبث إلى آخر رمق مني بإنسانية نشترك فيها، نتفق أو نختلف على تفاصيل وتطلعات لحاضر معاش وقادم لا نعلم كنهه، ولكنا نمد الفكر إليه بحسابات التجارب تارة وتوقعات لإحداث آمال بتجاوز عقبات المستقبل المجهول، استفادة مما نملك من وسائل  حاضرة وخطط تطويرها في قادم الأيام؛ لأنَّ الله عز وجل علَّم الإنسان ما لم يعلم، وما زال الفكر البشري مُتَّقدا لاستجلاب العلم من فارضه ومروضه الذي مكن المجتهدين من خلقه من نواصي المعرفة بالعلم والعمل الجاد الدؤوب لتحصيله وبلوغ أهدافه في كل حالات الزمان وتقلبات الظروف وتباين الأمكنة، إلا أنَّ صُنَّاع الكلام ما برحوا يراهنون على كسب الرهان من تجارة بيع الوهم والتمترس خلف الحيل الخادعة والتخفي وراء براقع تشف عن وجوههم مع نظرهم لشمعة أسرجها مجتهد في الأرض استجابة لأمر رب السماء بالصلاح والإصلاح، يقُض منهم كل مضجع شعاع يأتي من مشرق العرب؛ ذلك أنه يجلي الغيوم ويكشف الأقنعة التي جعلوها ستارا لإخفاء حقيقة وجوه تلبَّسوها وتلبَّست بهم، وما كادوا يُعرفون إلا بألوانها وكثافة إخفاء حال عاشوا بكل آمالهم وطموحاتهم الواهمة عليه؛ لذلك ترى رؤوسهم تطل بين الحين والآخر للإعلان من خلف حجب اصطنعوا سواترها ظنا منهم أنهم مانِعَتهم حصونهم، ولكن الله غالب أمره ففي كل مرة أرادوا نصب حبائل مكائدهم يظهرها السفهاء منهم دون وعي فينكشف المستور، ولأننا في سلطنة عُمان، بلاد النور والضياء والوضوح لا نحب الظلام والتخفي خلف حُجب الوهم مهما ازداد تراكمها، وظنها البعض جزءًا من حقيقة وجوده، إنا أمة جُبلت على الجد والعمل الدؤوب، يعجبنا الصمت في حضرة المهاترات، ليس انكفاءً ونحن صُناع الأمجاد ماضيا وحاضرا، ولكن ترفُّعا عن كل ما يلحق بالمرء من وهن وسوء تبصر وبصيرة.

وللآخر أن يتَّجه بفكره كيفما رغب وشاء، وإن طلب النصح نسديه بغير ما رجاء لمِنَّة أو شكر، وعلى الجميع الكف عن الكذب وبيع الظنون للواهمين؛ فلدينا ما نقوله وإن قلناه حقا سيكشف عورات لهم نحاول سترها.

لذلك؛ ترانا نترفع كثيرا عن التلاسن، إذ إنَّ الحكمة مصدرها العقل، وبالعقل والفكر والجد والمثابرة تصنع الامم أمجادها.