زاهر المحروقي
بَعْد استقرار السيِّد سعيد بن سلطان في زنجبار، أصبحتْ تلك الجزيرة المنسية درّة الإمبراطورية العمانية (آنذاك)، وعاصمة دبلوماسية مهمَّة في الشرق الإفريقي، وأقامت الدول الكبرى علاقات سياسية واقتصادية وثقافية مع زنجبار، فغدتْ مركزاً تجارياً عالمياً بمقاييس تلك الفترة، ما لبثت أن أصبحت قبلة لزعماء الإصلاح في العالم الإسلامي، يتفاعلون مع سلاطينها في قضايا الأمة الإسلامية والأمور الثقافية وغيرها من القضايا المعاصرة.
وقد اهتمَّ الكثيرون من الباحثين بهذه الحقبة، منهم من اهتم بالجانب الاقتصادي، مثل د.سليمان بن عمير المحذوري الذي قدَّم دراسة مهمة عن التاريخ الاقتصادي لزنجبار في كتابه "زنجبار في عهد السيد سعيد بن سلطان"؛ أما الباحثان د.محمد بن ناصر المحروقي، وأ.سلطان بن عبد الله الشهيمي فقد اهتما بمراسلات زعماء الإصلاح في الوطن الإسلامي إلى سلطانَيْ زنجبار، حمود بن محمد، وعلي بن حمود البوسعيديَّين، ما بين عامَيْ 1896 و1919م، التي صدرت ضمن منشورات جامعة نزوى، وبذل المؤلفان جهداً بحثياً كبيراً، تجلّى في منهج اختيار وترتيب الوثائق التي بلغ عددها 130 رسالة، وقدّما ملخصاً وافياً لمضامين مراسلات زعماء الإصلاح للسلطانَيْن، وهي لمجموعة من العلماء وكذلك رسائل لأئمة الحرمين الأشراف والمؤرِّخين والكتّاب والشعراء والأعوان، ومراسلات صحفية وصلتهم من وكالة رويترز والجريدة الزنجبارية وبعض الصحف والمجلات العربية. جاءت معظم الرسائل الواردة في هذا الكتاب من الأرشيف الوطني بزنجبار أثناء رحلة بحثية قام بها د.محمد المحروقي مع فريق البحث الإستراتيجي لـ"مصادر تاريخ علاقة عمان بشرق إفريقيا 1624-1663م".
يبرُز الكتاب الدور الثقافي للسلطانَيْن حمود بن محمد وابنه علي، في دعم الجهود الإصلاحية لعلماء وكُتَّاب وصحفيي العالم العربي في مطلع القرن العشرين؛ وذلك من خلال مجموعة كبيرة من الوثائق التي قام الباحثان بجمعها وفرزها وتحليل مضامينها. وتمَّ اختيار وثائق هذا الكتاب -حسب المقدمة- ضمن مجموعة مئات الرسائل المصورة التي تتناول موضوعات وأشكالاً شتى، كالمراسلات السياسية بين أقطاب العالم آنذاك وسلاطين زنجبار، منذ عهد السيد سعيد بن سلطان، ومراسلات أسرية بين أفراد في عُمان وأقاربهم، أو وكلائهم في زنجبار وشرق إفريقيا، وبعض الوثائق التي تخص أحكاماً قضائية وصكوكاً، لم ينفض الغبار عنها، من ممباسا والجزيرة الخضراء خصوصاً، كما أشار إلى ذلك د.محمد المحروقي في مقدمة الكتاب، وأوضح منهجية اختيار هذه الرسائل: "لقد قمنا بقراءة تلك الوثائق وفرزنا منها ما يتصل بالسلطانَيْن، ممّا كُتب إليهما أو في زمانهما، ممّا يتصل بمساهماتهما في رفد الثقافة العربية، وتعزيز جهود الإصلاحيين على مختلف مشاربهم وتوجهاتهم، ولقد أفضى الفرز التحليلي لمضامين الوثائق إلى تحديد أربعة أقسام أساسية تندرج ضمنها تلك الوثائق المنتخبة، وهذه الأقسام هي العلماء، والشعراء، والأقران والأعوان، والصحافة؛ وكلُّ قسم يضم مجموعات أصغر، وقد وضعنا جداول لترتيب هذه الوثائق أخذاً في الاعتبار الأقدمية، ووضع الرسائل القادمة من مصدر واحد معاً، وفي هذه الجداول حرصنا على تعبئة الحقول باسم المُرْسِل والمُرْسَل إليه، ومحتوى الوثيقة وتاريخها وحقل الملحوظات".
لقد اجتهدَ الباحثان في فك طلاسم خطوط الرسائل الواردة إلى السلطانَيْن؛ حيث نشرا صورة من الرسالة الأصلية في الصفحة المقابلة فيما نشرت الرسالة بطباعة حديثة على يمين الصفحة تسهيلاً للقراء؛ بمعنى أنه تم نشر أصل تلك الرسائل بخطوط كُتّابها، ووصف ما تتضمنه تلك الرسائل من مادة علمية في متنها، لتسهيل قراءتها؛ حيث يتيح الفرصة للقارئ أن يقرأ الرسالة مطبوعة أو كما كتبها مرسلها. ويبدو من الصور المنشورة للرسائل أنّ كُتّاب السلاطين كانوا يعيدون كتابة الرسائل الواردة بالخط المغربي، بالخط المشرقي تسهيلاً للقراءة، وتكشف معظم الرسائل جمال الخط العربي، وجمال التعبير، ولولا الجهد المبذول في إعادة كتابة هذه الرسائل بالطباعة الحديثة فإنّ الجيل الجديد يصعب عليه قراءة تلك الخطوط.
يضمُّ القسم الأول مراسلات العلماء والأئمة والأشراف والكتّاب؛ منها: رسائل من الشيخين محمد بن يوسف أطفيش والإمام محمد رشيد رضا، وتتركز مراسلات الشيخ أطفيش حول متابعة طبع كتبه في زنجبار والقاهرة، فيما يكتب الشيخ محمد رشيد رضا رسالة إلى السلطان حمود بن محمد يُعرِّفه فيها برسالة صحيفة "المنار" التي أسسها، طالباً الدعم المادي؛ والرسالةُ دليلٌ على إسهام سلاطين زنجبار في دعم الصحافة العربية، "في وقت تخلّى عن هذا الدور الكثيرون من ولاة الأمر لعدم رغبة الدولة العثمانية في تنشيط حرية الرأي بين العرب للحفاظ على استمرارها"، كما أشار الشيخ رضا في رسالته. ثم هناك رسالة ثانية من صاحب "المنار" يعرِّف فيها السلطان حمود بمشروع جديد له، وهو تأسيس "جمعية العلم والإرشاد" بالآستانة ويطلب فيها دعم السلطان أيضاً، وقد تكون رسالة الشيخ محمد رشيد رضا -حسب رأيي- من أهمِّ الوثائق الواردة في هذا الكتاب؛ فهو يشرح للسلطان أهداف إنشاء هذه الجمعية ويقول: "يعلم مولانا السلطان ما عليه المسلمون من جميع الفرق من الضعف في العلوم والفنون والصناعات والآداب الاجتماعية والشؤون المدنية، ويعلم أنّ علة العلل لذلك هو سوء فهم الدين الإسلامي وكثرة البدع والتقاليد فيه، وجهل علمائه بتطبيق أصوله وأحكامه على مصالح البشر في هذا العصر، وتعصبهم لمذاهبهم التي فرَّقت الأمة الإسلامية وجعلتها شيعاً يعادي بعضها بعضاً. وقد دققتُ النظر في ذلك، فلم أر له علاجاً إلا تأليف جمعية إسلامية دينية علمية خيرية تجمع الإعانات وتربِّي طائفة من العلماء والمرشدين تبثهم على نفقتها في البلاد الإسلامية لإنارة عقول المسلمين، وأن تكون هذه الجمعية مؤلفة من جميع المذاهب الإسلامية كالسُّنيّة والشيعة والإباضية، وأن يكون ما أجمع عليه المسلمون هو معقد الارتباط فيها بين المسلمين، ويعذر بعضهم بعضاً في مسائل الخلاف ولا يتعادون في ذلك، وأن لا تشتغل الجمعية بالسياسة لا ظاهراً ولا باطناً".
وفي الكتاب رسائل ترد من صحفيين من مختلف أنحاء العالم، وكذلك مراسلات من الأديب جرجي زيدان صاحب مجلة الهلال ومؤلف الروايات التاريخية الإسلامية، وكذلك مكاتبات من عبد المسيح الأنطاكي صاحب مجلة العمران، يرسلها إلى كاتب السلطان الشيخ محمد بن سالم الرواحي يطلب فيها صورة السلطان علي وأبيه حمود، لطبعها في كتاب خاص عن ذكرى وفاة السلطان حمود.
أما رسائل الشعراء، فتأتي إلى السلاطين من عُمان والجزائر والشام، ومجملها قصائد المديح، ومن بين الشعراء: محمد بن شيخان السالمي، وشاعر يدعى سالمين، ومن الشاعرات أنيسة عطا الله وروجينا عوّاد والكسندرا مليادي دي فيرينوه، وبعض القصائد تتصل بالشعر الغنائي الذي كانت تغنيه الفرق الموسيقية، بعضُها باللغة العربية الفصحى، وبعضها باللهجة الحضرمية.
ويُعتبر كتاب "مراسلات زعماء الإصلاح إلى سلطانَيْ زنجبار حمود بن محمد وعلي بن حمود" من الكتب المهمة لأنه يوثِّق التواصلَ الثقافي العماني العربي في فترة هامة، كان العالم يشهد فيه نهضة كبرى في المجالات كافة؛ وكثيرٌ من التاريخ العماني مجهول، لأنه بين ثنايا الوثائق المنتشرة في الهند والبرتغال وأوروبا وأمريكا وأفريقيا تحتاج إلى من ينقِّب عنها وفيها، لأنّ الجهل بالتاريخ يؤدي غالباً إلى التشكيك، ويجب أن يكون الاهتمام بالتاريخ باباً لبناء الحاضر والمستقبل وليس من باب التغني بالماضي فقط.