عبيدلي العبيدلي
من الطبيعي أن يقودنا كل ذلك نحو البحث عن الأسباب الكامنة التي تقف وراء هذه الأزمة التي تنذر باتساع نطاق تأثيراتها حتى تشمل دولا أخرى مثل دول الشرق الأوسط. ينقل الكاتب المصري جميل مطر ما كتبه أحد كبار المحررين الاقتصاديين الإنجليز، الذي يحصر أسباب الأزمة في "ثلاثة على الأقل. الأول: أن الأزمة هذه المرة تحدث في مركز أعصاب الرأسمالية العالمية، أي في أمريكا. الثاني: أنها تحدث وسط تطورات تنبئ بتحولات في ميزان القوى الاقتصادية العالمية لصالح آسيا والشرق عموما وعلى حساب الغرب. الثالث: أن الأساليب المعتاد اتخاذها في الأزمات السابقة لن تنفع في حل هذه الأزمة بسبب تعقدها ولكن أيضا، وهو الأهم، بسبب ارتباطها بأزمات أخرى".
أما فولتشر، فهو في سياق محاولته تشخيص أسباب الأزمة التي تعاني منها الرأسمالية اليوم، يعود بنا إلى جذورها، فيقسم تطور الرأسمالية إلى ثلاث: الأولى تلك التي يطلق عليها "الرأسمالية الفوضوية"، وهي التي سادت، حسب فولتشر "القرنين، الثامن عشر والتاسع عشر، حين بدأت الرأسمالية الصناعية في الظهور. وكانت رأسمالية فوضوية؛ حيث كانت أنشطة أصحاب المشروعات الرأسمالية دون هيمنة أو سيطرة من الدولة". أما المرحلة الثانية فيعتبرها فولتشر "الرأسمالية المنضبطة"، وهي التي بدأت "في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ووصلت نهايتها في سبعينات القرن العشرين، وفيها انتظمت المنافسة، واستقرت السوق، وتوازن وجها الصناعة وهما المنافسة والأسواق". أما المرحلة الثالثة، فقد بدأت، من وجهة نظر فولتشر خلال عقد السبعينات من القرن العشرين، عندما "انهارت الرأسمالية المنضبطة، وخلال عقد الثمانينات.. ظهرت أصولية اقتصادية جديدة ركزت على إعادة احياء وإطلاق قوى السوق".
ثم يعود فولتشر للتساؤل: "لماذا انهارت الرأسمالية المنضبطة؟ (ويجيب) أحد أسباب ذلك الانهيار أن المؤسسات والهيئات الاقتصادية لم تستطع في النهاية أن تستمر في العمل والصمود في وجه المتغيرات. فشلت المحاولات الحكومية في السيطرة على علاقة الأسعار.. لكن المشكلة الحقيقة تحددت في أن المنافسة الدولية المتنافسة المتزايدة كانت تضع المجتمعات الصناعية الأصلية تحت ضغط متزايد زادت من حدة وطأة الأزمة الاقتصادية التي حدثت في السبعينيات".
من جانبه، يرى أستاذ العلوم السياسية والسياسة العامة في جامعة يورك-كندا، سعيد رهنما، كما يترجم له عادل حبة "إن الأزمة الراهنة التي تمر بها الرأسمالية في مرحلة عولمة كل دورات الرأسمال التجاري والصناعي والمالي هي بالأساس نتيجة لهيمنة السلطة المنفلتة للأيديولوجية الرأسمالية-الليبرالية لجديدة... التي أتاحت الفرصة لمختلف القوى الاجتماعية في الدول التي اعتمدت النظام الديمقراطي على هذا التغيير. ولكن مع تسلط الاحتكارات وهيمنة أكثر التيارات الرأسمالية يمينية في الدول الرأسمالية المتطورة، لوحظ تنامي مواقع الليبرالية الجديدة التي تتناغم في جوهرها مع النظام الرأسمالي وتحولت إلى الأيديولوجية الحاكمة والمهيمنة. ومع هيمنة هذه الأيديولوجية، تراجع دور الدولة في تنظيم الشؤون الاقتصادية، وأصبحت آلية التطرف في السوق هي الحاكمة في كل شؤون الاقتصاد عن طريق الخصخصة المنفلتة والتنافس اللا أخلاقي على جميع المستويات وإلغاء خدمات الدولة بشكل متزايد وانحلال دولة الرفاه وتحميل الأكثرية المحرومة تبعات التقشف الاقتصادي في وقت يجري دفع مبالغ ضخمة ورواتب تبلغ عشرات الملايين إلى مديري الشركات وإلغاء الضرائب على الشركات وإلغاء رقابة الدولة على عمل البنوك والرأسمال وتوسيع البنوك الحرة خارج الحدود وبدون رقابة من الدولة وبيع وتداول العملة والأسهم في البورصات العالمية طوال 24 ساعة في اليوم. كل هذه هي جوانب من هذه الأيديولوجية المتطرفة والغارقة في الرجعية".
وعلى نحو مواز، يغوص الأستاذ بكلية التجارة جامعة الأزهر والخبير الاستشاري في المعاملات المالية الشرعية حسين حسين شحاتة، في أعماق الرأسمالية باحثا عن جذور أزمتها، فنجده يؤكد على أن "الرأسمالية المالية الطاغية قد أسست على عدة مبادئ وأسس خاطئة من أخطرها، والذي كان سبباً في الأزمة المالية المعاصرة التي أصابت العالم اليوم بكوارث". ويلخص شحاتة هذه المبادئ في خمسة مبادئ مركزية، أولها "مبدأ الليبرالية المطلقة، ويُقصد بذلك تحرير المعاملات من أي قيود تحت شعار (دعه يعمل دعه يمر)، أي إطلاق العنان لرجل المال ولرجل الأعمال للعمل الإنتاج والكسب ما دام يسدد ما عليه من ضرائب للدولة، وترتب على تطبيق هذا المفهوم ضعف تدخل الدولة فى مجال الرقابة على الأعمال. وثانيها "مبدأ التكتلات والوحدات الاقتصادية الكبيرة"، ويقصد بذلك "أنه ولابد وأن يقود التنمية في العالم المشروعات الضخمة الكبيرة والمتعددة الجنسيات حتى تستطيع أن تكون القائدة في مجال التوجيه المالي والاقتصادي، حتى أننا نرى أن ميزانيات بعض الشركات أضعاف مئات المرات لميزانيات بعض الدول. وثالثها "مبدأ إنشاء المنظمات الداعمة للرأسمالية والليبرالية، ومنها على سبيل المثال: صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية (الجات سابقاً) والبنك الدولي للتنمية.. ولقد هيمن على هذه المؤسسات جميعاً الدول الرأسمالية العالمية وعلى رأسها أمريكا، وكان من آثار ذلك: الهيمنة الكاملة على مصير الشعوب لا سيما الفقيرة. وثالثها "مبدأ العملة العالمية السائدة"، والمقصود به هنا "جعل الدولار هو البديل للذهب كمقياس ومعيار رئيسي في المعاملات النقدية المالية الدولية وفى البنوك والمصارف وأسواق المال، وكاحتياطي في البنوك المركزية كما قامت العديد من الدول بربط عملتها به ليكون هو الأساس بدلاً من الذهب... وأصبح هو اللص الذي يسرق ثروات العالم ولا سيما الدول الفقيرة والنامية". ورابعها: "مبدأ استخدام العقوبات المالية والاقتصادية ضد الدول". وخامسها: "مبدأ فصل القيم والأخلاق عن المعاملات المالية والاقتصادية".
وفي ختام رصد أسباب أزمة الرأسمالية العالمية، يحضرنا ما كتبه السيد ياسين بشأن مستقبلها "كنظام اقتصادي عالمي، سيظل موضع جدل، وبحاجة إلى مراجعة أيديولوجية بالغة العمق... لصوغ مذهب اقتصادي عالمي جديد".