رسالة إلى مُعلِّم

 

حميد السعيدي

قبل ثلاثة أعوام، وفي الأسبوع التدريبي الأول لإحدى المجموعات التي أقوم بتدريبها لمدة عامين، ومن بَيْن هذه المجموعة كان هناك تفاعل مميز من أحد المعلِّمين، لم يكن كغيره؛ فقد كان مُختلفاً من حيث نشاطه، ومُشاركاته المتميِّزة، وتحمُّسه للتدريب، وكان يُشجِّع زملاءه على المشاركة؛ لأنَّ التدريب البنائي يعتمدُ على مُشاركتهم في التدرب بأنفسهم. ما يُميِّزه عن غيره أنَّه أنْهَى 27 عاما في مهنة التدريس، وهو ما زال في قمَّة عطائه، ويقبل على التدريب والإنماء المهني بجدارة. وفي نهاية التدريب، كان تعليقه: ما حدث خلال هذا الأسبوع، كان له أثر في تغيير توجُّهاتي ومَهَاراتي تجاه عملية التعلُّم، وكان الوعد بالتغيُّر من أجل مستقبل عُمان؛ لذا فعليهم أن يذهبوا إليك ليتعلَّموا مَعَنى مهنة المعلم، معنى العطاء دون كلل، إنَّها المواطنة الحقيقية التي لا تقفُ عند زمن مُحدَّد؛ فحماسك ورغبتك في العمل يجب أن يُغرسا في الملتحقين الجُدد بمهنة المعلم.

أستاذي العزيز...،

الأمم التي ترغب في التجديد والتقدُّم تُقدِّر قيمة المعلم ومكانته؛ لأنها مهنة عظيمة، ودورها كبير في عملية بناء المستقبل؛ فبهذه المهنة تتشكَّل الشعوب وتُبنى العقول ويتنوَّر المجتمع بالمعرفة والعلم؛ لذا فقد شُبِّه المعلمون بالأنبياء نظيرَ جَهْدهم الذي يبذلونه في عملية التدريس؛ فأدوارهم عظيمة وجهودهم كبيرة في تنشئة الأجيال من أجل النهوض بالوطن؛ فالمعلِّمون المخلصون هم من يستحقون أن نرفع لهم القبعة، وهم من يجب أن يكون لهم كل التقدير والاحترام من المؤسسة التربوية أولاً، ومن المجتمع العُماني ثانياً. ومن هنا، يتوجَّب عليك أنْ تكون مع الأمانة وتُقدِّر قيمة هذه المهنة ومكانتها.

أستاذي العزيز...،

المواطنة ليستْ كلمات نتغنَّى بها في المناسبات، وليست كاتباً يقرأ للطلاب، أو مُحاضرة تُلقَى عليهم، إنَّها إيمانٌ ذاتيٌّ لا يُغرس إلا بالممارسة والأفعال، فأنت بالنسبة لهم الأب والمعلم والمربِّي، وكل ما تقوم به من أفعال وسلوكيات يُغرس في نفوسهم؛ فالصدق والأمانة وتقدير قيمة الوقت واحترامه والالتزام به، والقيام بإنجاز العمل بإخلاص وأمانة، وحُب العمل وعدم التأفُّف منه، وحماسك ورغبتك في القيام بواجبك الوطني، وحديثك عن الوطن، ودورك في النهوض به، كلها قيم واتجاهات أفكار تنتقل منك إليهم؛ فدورك يتعدَّى القيام بمهنة التدريس فقط، فأنت لست موظفاً، وإنما صاحب رسالة، وهذا ما يُميِّزك عن غيرك من الموظفين؛ فأنت المعلِّم في الصف، والمربِّي بالمدرسة، وصاحب المبادئ الدينية والاجتماعية في المجتمع، والمتمسِّك بوطنه وعاداته وتقاليده، وكل ما تقوم به من سلوكيات وممارسات ينظُر إليها أبناؤك الطلاب؛ فهم يتعلمون منك كل شيء.

أستاذي العزيز...،

إنَّ نمطَ الحفظ والتلقين وأسلوب المحاضرة الذي تستخدمه داخل الصف، نتيجة للمعرفة التي ترسَّخت في ذهنك من قراءة الكتب المدرسية؛ الطلاب ليسوا بحاجة إليها؛ فهم يختلفون عن جيلك وزمانك، إنْ لم تشغل بالَهم بالأنشطة والممارسات في الموقف الصفي، فسوف يرحلون بفكرهم بعيداً عنك، سيذهبون إلى أحلامهم وأجهزتهم الذكية، ويغردون في شبكات التواصل الاجتماعي، وسينافسون أصدقاءهم في الألعاب الإلكترونية، وستبقَى وَحْدَك في القاعة الصفية، أما أجسادهم وعيونهم فستظل تنظر إليك دون جدوى تتحقَّق منك إلا الصراخ ورفع الأصوات.

إذا رغبت في تحقيق تعليم عالِي الجودة، فعليك الاهتمام بالمهارات لا بالمعرفة، ابْنِ جيلاً مُفكِّراً ومُبتكراً، اصنع منهم مستقبلَ عُمان، واغرس فيهم حُبَّ التعلُّم؛ من خلال الاكتشاف والاستقصاء، وتحدَّ عقولهم بالمواقف المحيِّرة، وضَعْهُم في تحديات تُبرز قدراتهم العقلية. ومن هنا؛ تبدأ بالتعلم الحديث الذي أصبح اليوم وجهة العالم نحو الاستفادة من العقول المبتكرة، إنْ استطعت أنْ تُحقِّق ذلك فلا عليك من تلك الكتب المدرسية الكثيفة بالمعرفة والمعلومات والبيانات؛ فهي لن تُعِيْقك عن تطبيق التعلم الحديث، والذي يتطلَّب منك وقتا وجهداً أكبر؛ لأنَّك إنْ تمكَّنت من خلق طالب يمتلك المهارات الأساسية من التعلم، فلن يُصبح الكتاب عائق أمامه فهو قادر على التعلم بنفسه. ومن هنا، تكون حققت أهداف التعليم.

أستاذي العزيز...،

هُناك العديد من المعلِّمين الذين يمتهنون مهنة المعلم لتصبح جزءًا من حياتهم وممارساتهم اليومية؛ فينظر إليهم أبناؤنا نظرة التقدير والاحترام، ويقول الله عزَّ وجلَّ في كتابه العزيز: "وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ" (التوبة:105)؛ لأنهم ضحُّوا براحتهم الجسدية والعقلية، والاجتماعية، ويبذلون جهودًا مضاعفة في سبيل أداء رسالتهم المهنية والتي تتعدى الجانب الوظيفي؛ لأنهم يُؤمنون بأهمية الأدوار والأمانة التي وُضِعت تحت أيديهم، وأن بناء عُمان ومستقبل الأجيال القادمة مرتبط بتلك الجهود، ووصولك إلى تلك المرتبة هو الغاية الأساسية التي نطمح إليها اليوم؛ من خلال المعلمين الأكفاء الذي يَسْعَون لبناء الوطن، في حين يظل العائد المادي من هذه المهنة لا يُوازي جهودهم الحقيقية، ولكنه يبقى الوسيلة لتحقيق الاحتياجات الأساسية بالنسبة إليهم؛ لأنَّ رسالتهم الوطنية ترتكز على النظر السامية للوطن.

وأخيراً...،

أنت هُناك أيُّها المعلم العاق لوطنك، والذي عجزتْ المؤسسة التي تنتمي إليها عن محاسبتك أو تغيير سلوكك، واتخذت من القانون الضعيف مِنْبراً لك، فباسم الدين والوطن أطلب منك الرحيل، ويقول الله عزَّ وجل في كتابه العزيز: "يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ" (التحريم:6)، فكفاكم عبثاً بهذه الأجيال فأنتم خائنو الرسالة الوطنية؛ فقد أفسدتم العقول وضيَّعتم المستقبلَ بسلوككم وتأفُّفكم من مهنة التدريس؛ فقد تخاذلتم عن القيام بواجباتكم الوظيفية والمهنية، وضربتم عُرض الحائط كلَّ القوانين والأنظمة والمبادئ الدينية والمجتمعية، وأصبحتم عالة على مهنة المعلم؛ لقد شوَّهتم تلك الصورة الجميلة للمعلم، وأصبح الكل يُصدر أحكامه بناءً على تصرفاتكم؛ لذا ارحلوا فالوطن لديه الكثير من الكفاءات الوطنية المخلصة القادرة على القيام بواجباتها بأمانة وأخلص؛ ارحلوا وابحثوا عمَّا يتناسب مع أفكاركم ومستوياتكم؛ فمهنة المعلِّم ليست لأصحاب العقول المريضة، والمؤسسة التربوية ليست مُؤسَّسة لرعاية المرضى والعاجزين عن العمل.

.. الأمر يتطلب وقفة جادة في التعامل مع غير القادرين على ممارسة مهنة التعليم لظروفهم الصحية والخاصة؛ فلا يُمكن التضحية بمستقبل طلابنا مقابل مُعلِّم لا يرغب في مهنة التعليم، ويرفض أن يلتزم بالدوام اليومي للمدرسة، ولا يقوم بواجباته الوظيفية ويعبث بعقول أبنائنا.

Hm.alsaidi2@gmail.com