علي المعشني
يقول مثل جزائري: "ما يتعارفوا حتى يتشابهوا"؛ أي لا تنشأ صداقة حميمة بين شخصين أو أكثر إلا حين تتشابه ظروفهم وتجاربهم وتتوحَّد نظرتهم للحياة إلى حدِّ التطابق. ومن يَرَ الحلفَ المستميت اليوم لتدمير سوريا كآخر معقل للقوة العربية والتوازن مع العدو الصهيوني، يجدْ القاسمَ المشترك بينهم هو الرعي (رعاة البقر والغنم والشاة)؛ فلهذه الحرفة عقليتها وثقافتها الجينية التي لا تتحلل ولا تتبدل مهما تطاولوا في البنيان وتنافسوا في اكتناز الأموال. يُضاف إليه أنَّهم أبناء مدنيات حديثة طارئة على التاريخ والجغرافيا وجاهلة لأبسط قواعد الصراع الحضاري وأدواته. فهم يُعانون من فوبيا خاصة بهم، ولايشعرها سواهم من الحضارات والتاريخ وأبنائهما، ويعتقدون أنَّ التاريخ يُمكن أن يُبنى بالطوب والكونكريت.
لهذا؛ لا يقرأون التاريخ ولا يُقيمون له وزنًا في خطاهم، ولا يخضعون لقانون أو عرف على اعتبار أن أفعالهم تاريخ، وقوتهم قانون، تمامًا كما ينظر الراعي للحياة من حوله، ويتبع الكلأ ليعيش هو وقطيعه.
السنون الخمس العجاف التي عِشْنَاها بالعين المجردة والحواس الخمس، تُبرهن -بما لا يدع مجالًا للشك- أنَّ الرعاة ما زالوا على عقليتهم ووهمهم بالكلأ الكبير والخراج الوفير من سوريا رغم كل المتغيرات والأطوار التي عرفتها الأزمة، والتي جعلت العقلاء يتيقَّنون بأنَّ هناك خللا كبيرا في إستراتيجية المؤامرة على سوريا، وأن الأزمة تشظَّتْ وخرجتْ عن التصور والسيطرة، ولم تعد لعبة مريحة لأطراف المؤامرة على وجه الدقة والتحديد. ومن هنا، لجأ هؤلاء العقلاء إلى فتح أبواب حوارات مع دمشق كل على طريقته وبالمستوى المناسب لضمان العودة المريحة له إلى ركب العقلاء. "حلف الرعاة" فقط هم من بَقُوا على خط النار، متسلحين بنرجسية ووهم تحقيق النصر المؤزر بأدوات عفى عليها الزمن وتجاوزتها الأحداث.
الأمريكان -كبار الرعاة في العصر الحديث، كما وصفهم ونستون تشرشل- لا يفكرون بل يجربون حتى يفشلوا، وتلك من صفات النرجسيين الحالمين والمتسلحين بثقافة رامبو وسوبرمان ممن يقدمون القوة العمياء على العقل والضمير؛ فالرعاة بطبعهم لا يهمهم ماذا يفعل الصياد، بل ماذا يحمل لهم بين يديه.
الصلف الذي يُمارسه "حلف الرعاة" على العقل البشري لإكراهه على قبول ضلاله وغيه، لم يسبقه "صلف" أو يُعادله في سيرة التاريخ البشري لا على المستويات الفردية ولا على مستوى الجماعات والشعوب.
فهم يريدون جعل المستحيل ممكنًا، وجعل الممكن مستحيلًا وما بُني على باطل فهو حق مُطلق، وفوق كل هذا سيف مسلط على العقل والرقاب والفكر شعاره "من ليس معي فهو ضدي"، وهذا ما لم يسبقهم به أول الرعاة وأخطرهم في التاريخ البشري وهم المغول، والذين هدتهم فطرتهم البشرية السليمة في لحظة صدق تاريخي إلى الإقرار والتسليم بهويتهم وحجمهم الحقيقيين في معايير الحضارة، فتخلوا عن عقلية القطيع والنرجسية، وانسلخوا عن ذواتهم، وأسلم أغلبهم فأسسوا مدنية بملامح الحضارة ورقيها، وبقي شاهدًا منها التحفة المعمارية تاج محل ورمزيته.
مصيبة "حلف الرعاة" وكارثيتهم الحقيقية تتمثل في قناعتهم التامة بأن نجاح إستراتيجية "استغباء" الصغار، ستمر بردًا وسلامًا على الكبار كذلك، وسيأتيهم الخراج وهم على أجنابهم نائمين (الشريك النائم)، ولكنهم صدموا من إيقاظهم لضوارٍ ومفترسات لا طاقة لهم بها، ولم يحسبوا حسابها، وفوق كل هذا ما زالوا على جنوبهم حالمين.
اليوم، يستدير راعي الغنم أردوغان وتجبره المعادلات وقواعد الاشتباك على الأرض أن يتمرد على حلفه طالما أصبح خياره أكون أو لا أكون؛ فأطراف بلاده تُقضم بصمت وبمباركة الكبار، ومصير بلاده في مهب الريح بفعل مطامح الصغار في الداخل والخارج، ولن يستطيع أردوغان بعد اليوم المناورة، كما كانت مساحاته في السابق أو اللعب بالبيض والحجر كما كان يحلو له؛ فالظرف يجبره على ابتلاع المر خوفًا من ابتلاع الأمر منه.
أمَّا الرعاة الآخرون، فخياراتهم لا تقل مرارة عن خيارات شريكهم المنشق عنهم أردوغان، وعليهم قراءة الواقع بعين مستعارة طالما خذلتهم أعينهم الطبيعية.. فاليوم تنطلق القاذفات الإستراتيجية الروسية من قاعدة همدان الإيرانية، وبمباركة من السلطات العراقية، لقصف "داعش" وأخواتها على الأرض السورية، وهي رسالة جلية للمكفوفين بمغزى هذا الانقلاب الإستراتيجي في التحالف بأن تسمح إيران باستخدام قواعدها العسكرية من قبل دولة أجنبية رغم الحساسية المفرطة للقيادة الإيرانية والشعب الإيراني من هكذا تعاون، ورغم وجود بدائل لا حصر لها للحليف الروسي من قواعد بداخل سوريا، وحاملات طائرات، وقواعد في البحر الأسود والقرم قادرة جميعها على تنفيذ مهامها العسكرية على الوجه الأكمل.
الخبرُ غير السار والمقلق للغاية لـ"حلف الرعاة" هو التغيير المرتقب في إيران بعد إعلان الرجل الحديدي محمود أحمدي نجاد عن ترشيح نفسه للرئاسة الإيرانية القادمة؛ فوصول هذا الرجل إلى سُدة الرئاسة في إيران كفيل بإنضاج قناعات كثيرة في الداخل والخارج وبعودة خيار الصراع والمواجهة مع الغرب إلى المربع الأول طالما لم يستغل الغرب عهدة روحاني (تيار الوسط) ويسارع في الوفاء بإلتزاماته من الإتفاق النووي، والذي مازال يماطل ويسوف به بطريقة تبرهن القناعة الراسخة لتيار المحافظين في إيران وتصنيفهم للغرب ونظرته للحلفاء من خارج جغرافيته ونكوثه للعهود والمواثيق والتي يستخدمها مع خصومه للتنويم في العسل وكهدن حرب وإستراحة محارب لا أكثر.
فوصول نجاد إلى سُدة الرئاسة القادمة في إيران لا يعني وصول شخص يحمل الكثير من الكاريزما الشخصية ومقومات القيادة وثقافة المقاومة فحسب، بل يعني رغبة وعودة المزاج العام للقيادة والشارع في إيران نحو صيانة مبادئ الثورة وعودة خيار المواجهة مع الغرب والذي تجاهله التيار الإصلاحي وتيار الوسط.
---------------------------
قبل اللقاء: "من لا يقرأ التاريخ محكوم عليه أن يعيد عثراته".
Ali95312606@gmail.com