السِّلم الأهلي والمواطنة صنوان لهدف واحد

 

 

عبيدلي العبيدلي

في جلسة حوارية ضمَّت بعض المثقفين العرب، دار حوار طويل حول "الوضع المأساوي" الذي تعيشه المنطقة العربية، والذي اعتبره بعض الحاضرين "أسوأ حالة عرفتها هذه المنطقة في تاريخها المعاصر". وقارن بعض آخر بينها وبين المرحلة التي واكبت "نكبة فلسطين"، واعتبر -من وجهة نظر هذا البعض- أننا في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي خسرنا فلسطين، ولصالح الحركة الصهيونية، وهي خسارة لا تعوض، أما اليوم فنحن نخسر البلاد العربية برمتها ولصالح الصهيونية أيضا وقوى إقليمية أخرى. ما يجمع الخسارتين بشكل مشترك أنهما كانتا لصالح مشروع استعماري خارجي.

تطوَّرتْ النقاشات، وتشعَّبتْ، وتخللتها بعض الفتاوى والاجتهادات التي لم تخلُ من شيء من المشادات، لكنها جميعا حاولتْ أن ترسم معالم المرحلة القائمة؛ من خلال تشخيص الأسباب التي تقف وراء وصول العرب إلى ما هم عليه اليوم، من تفتت سياسي، وتشظٍّ اجتماعي، وتخلخل اقتصادي، وتبعية حضارية. كلُّ ذلك يجري في وقت يُفترض أن تكون فيه الأمة العربية -إن جاز استخدام هذا التعبير- تمتلك من المقومات والإمكانات ما يضعها في الخانة الأخرى، من تلك التي تحتلها اليوم.

فعلى الصعيد الحضاري -وهو الأشمل- تختزن هذه المنطقة عصارة الحضارة الإنسانية التي تجلت في مراحل متتالية من تاريخها القديم والحديث. وعلى الصعيد السياسي، تحتل هذه المنطقة رقعة جغرافية تجعل منها الأهم سياسيًّا مقارنة مع كثير من الأمم الأخرى التي تتبوأ مكانة تتجاوز فيها الأمة العربية وعلى الصعد كافة. أما بالمعيار الاقتصادي، فتكفي الإشارة إلى النفط، دون الحاجة إلى سرد قائمة العناصر الاقتصادية الأخرى، للتدليل على ما تملكه هذه المنطقة من مُقوِّمات اقتصادية كافية لأن تضعها في مصاف الدول المتقدمة ذات الثقل الإستراتيجي بالمعيار العالمي للكلمة.

وانبرى أحد المشاركين في ذلك الحوار الساخن، الذي بدأ يقترب من حالة "شق الجيوب وضرب الصدور"، كي يقول صادما الجميع. كل ما جرى الحديث عنه صحيح وسليم، لكننا نسينا في غمرة سرد الإمكانات مسألتين تفقد كل تلك المقومات دورها في تعزيز مكانة الأمة العربية بين الأمم الأخرى، ومن ثم تجردها من القدرة على احتلال المكانة التي يفترض فيها أن تكون فيها. الأولى منهما هي القناعة الراسخة المنغرسة عميقا في نفس المواطن العربي بأهمية التقيد الصارم بقيم وسلوكيات؛ مما أصبح يُعرف بالمواطنة الصالحة. أما الثانية، فهي التشرُّب الواعي غير القسري بمفاهيم ومقومات السلم الأهلي.

فبالنسبة للمواطنة، يخلط الكثيرون من العرب الفارق النوعي الشاسع بين "حب الوطن" أو "الاعتزاز به"، وبين المواطنة. وللعلم فقط فمفهوم المواطنة يغوص عميقا في الحضارة الغربية، دون الشعور بأي شكل من أشكال الدونية لها. إذ يرجعه البعض من أمثال الكاتب غازي التوبة إلى ما "قبل الميلاد مع الحضارتين اليونانية والرومانية، وكان له معنى خاص في هاتين الحضارتين، وكان هناك تمييز بين مضمون المواطنة في كل من مدينة أثينا، ومدينة إسبارطة، المدينتين اليونانيتين، ثم أخذ معنى آخر في مرحلة العصور الوسطى في أوروبا، ثم أصبح له معنى ثالث في العصور الحديثة".

أما المواطنة الصالحة بمعناها الحديث، الذي يستمد من الأدبيات الغربية، فهي كما يلخصها الكاتب محمد محمود العناقرة، "فتعرف على أن يكون فعل الأفعال عند الفرد أو المواطن لخير المجتمع وصالحه، والخير المقصود هنا ثروة كلية للوطن تقسم على المواطنين، فيتحقق لهم منها الإشباع أو التمتع، وتكون الثروة مادية مثل الحدائق العامة، والآثار والأماكن الحضارية، وروحية كالتقاليد والثقافة والتراث الوطني، ومن هنا فمن واجبات الفرد البحث عن صالح مجتمعه حتى يتصف بالمواطنة الصالحة".

وعليه يتحول المواطن، كما يقول الكاتب حسين عبد الباسط إلى عنصر اجتماعي "يقبل تحمل المسؤولية والاشتراك في عملية صنع القرارات العامة عن طريق التمثيل الشعبي السليم، ينمي لدى نفسه المهارات ويكتسب المعارف التي تساعده على حل المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تواجه المجتمع الذي يعيش فيه، ويصدر الأحكام والأراء البناءة التي تمكنه من العمل بفاعلية ونشاط في العالم المتغير الذي يعيش فيه".

وعلى نحو موازٍ ومُتكامل مع المواطنة وقيمها، يمكن الحديث عن أهمية السلم الأهلي في الارتقاء بالأمم. ولهذا نجد الكاتب فـؤاد الصلاحي، يعتبر ان "من أهم مظاهر الدولة المدنيّة تعزيز قيم التعايُش والسلم الأهلي وإدماجها في منظومة الثّقافة، بل وفي المنهج التعليمي والخطاب الديني، حتى يتم إكساب المجتمعات فكراً جديداً حول أسلوب الحياة ضمن تعدُّد وتنوُّع الجماعات واختلاف مشاربها وهويّاتها، واعتبار هذا التعدُّد والتنوُّع مصدر ثراء للمجتمع وللحضارات. وهنا يكون مفهوم السلم الأهلي والتعايُش من أهم مفاهيم العمران البشري التي تُقرّ بها جميع الحضارات".

وفي السياق ذاته، يُؤكِّد مُحمَّد الشواف على "أنَّ العنف وغياب القانون يعززان القيم والمفاهيم القديمة ومحاربة أي رغبة في التجديد وأن تفاقم مظاهر العنف والفوضى والفلتان الأمني يهدد تماسك المجتمع وآمنة وسلمه الاجتماعي ويؤثر بشكل مباشر استقرار المجتمع على كافة المستويات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية".

إذن؛ فما ينقص العرب اليوم ليس حب الوطن، ولا المكانات الاقتصادية أو المكانة السياسية، بل ذلك التكامل الحضاري الراقي بين مفهومين هما سلوكيات واعية تتقيد يقيم المواطنة الصالحة من جانب، وتمسك مدرك لأهمية السلم الأهلي من جانب آخر.

فبقدر ما تغرس المواطنة الصالحة ذلك الإحساس العميق بالانتماء، ومن ثم الاستعداد المطلق للدفاع عن الوطن، بقدر ما تزرع القناعة بدور السلم الأهلي المقاييس التي تحتاجها عمليات تعزيز اللحمة بين فئات المجتمع، أسس التمسك الاجتماعي الذي يقضي على الفئوية، ويحارب الطائفية. وبموجب ذلك التكامل الواعي المتحضر بين المواطنة الصالحة والسلم الأهلي، تستطيع الأمم -مستفيدة من إمكاناتها الاقتصادية والسياسية، والأمة العربية ليست حالة استثنائية- الوصول إلى المكانة الرفيعة التي تستحقها حينها بين الأمم الأخرى.