نحو مُحاضرات ثقافيَّة أفضل

 

 

فَيْصَل الحضرمي

نادرةٌ هي المرَّات التي قرَّرت فيها حضورَ فعالية ثقافية تُقام في مسقط أو في أي مكان آخر. فبُعد المسافة غالباً والتوقيت المسائي الذي يعقُبه صباح عمل، والتوجُّس من أنْ تكون المادة المقدَّمة أقل من أن تستحق عناء حضورها، كانت دائماً كفيلة بتثبيطي عن الحضور. إلا أنَّ هذه الأسباب نفسها تُصبِح هشَّة أمام العناوين المغرية أو المحاضرات التي تتناول أو تتناولها أسماء أحبها أو أتطلع للتعرف عليها أكثر. هكذا وجدت نفسي من القلة القليلة التي تواجدت بمقر الجمعية العمانية للكتاب والأدباء بمرتفعات المطار للاستماع لمحاضرة بعنوان "منابع التراجيديا في أدب دوستويفسكي"، الروائي الروسي الذي قرأت له وعنه كثيراً، ويجمعني به حب من القراءة الأولى منذ سنوات الدراسة الثانوية.

ألقى المحاضرة الأستاذ سليمان البوطي الذي -بحسب ما قرأت في إحدى صحفنا المحلية- يحمل شهادة دكتوراة من معهد الأدب العالمي بموسكو وأخرى من الاتحاد العالمي للمؤلفين العرب ، وله باع طويل في القراءات والدراسات الأدبية؛ إذ بدأ نشر مقالاته وأبحاثه في الصحف السورية والعربية قبل أربعين عاماً، وهو إلى ذلك متخصص في أدب دوستويفسكي؛ حيث إنَّ الرسالة التي قدمها لنيل الدكتوراة كانت تحديداً عن التراجيديا عند دوستويفسكي، وهو نفسه موضوع المحاضرة كما أسلفت. ومع ذلك، فإن المحاضرة لم تكن بالثراء الذي توسَّمته فيها، ويؤسفني أنها لم تضف جديداً إلى ما أعرفه مسبقاً عن عالم هذا الروائي الفذ وأنا القارئ الهاوي غير المتخصص في شؤون الأدب. ربما يرجع المستوى الذي خرجت به المحاضرة في رأيي إلى عدم كفاية الإعداد والتحضير من قبل المحاضر، وقد يكون ناجماً أحياناً عن تعمد المحاضر تقديم وجبة معرفية خفيفة على أسماع الحاضرين بعيداً عن التفاصيل والتحليلات المعقدة التي ربما اعتقد أنها تضجر الحاضرين وتصيبهم بالملل.

مُنذ البداية، كان من الغريب أن تختزل التراجيديا في أدب دوستويفسكي في عمل وحيد من أعماله هو روايته "الجريمة والعقاب"، وإن كانت من أهم ما كتب ومن أكثر أعماله احتشاداً بالتراجيديا، دون أن ينوه إلى ذلك في العنوان نفسه الذي أوحى بأن البحث في الموضوع يتمحور حول الكاتب في مجموع أعماله ولا يتركز وحسب على رواية واحدة منها. إلى جانب ذلك، غابت عن المحاضر الدقة في عدد من المعلومات المهمة والمعروفة للمتابعين، كحادثة وفاته التي أزاحها إلى الأمام عشرين سنة كاملة، أي إلى سنة 1881 بدلاً من 1861، وحادثة اجتياح نابليون لروسيا الواقعة سنة 1912 لا سنة 1905 حسبما ذكر هو. كما وقع في الخلط بين عدد روايات دوستويفسكي وبين عدد مجلدات أعماله الكاملة الصادرة بالعربية والبالغة ثمانية عشر جزءاً. مثل هذه المعلومات الخاطئة فيما يتعلق بحقائق ووقائع ذات صلة مباشرة بالموضوع هي التي أعطت الانطباع بأن المحاضرة أعد لها على عجل ولم يترك لها الوقت الكافي لتتخمر وتُراجع جيداً قبل أن تُقدَّم للجمهور. ولم تستغرق المحاضرة أكثر من نصف ساعة أو ثلاثة أرباع الساعة كحد أقصى، فخرجت شحيحة المعلومات، ولم تتعمَّق إلى ما وراء السطحي والمكرر حول دوستويفسكي العملاق الذي حبر عبر خمسة وثلاثين عاماً من عمره آلاف الأوراق في كتابة القصة والرواية والمقالة والمذكرات عبر مسيرة كتابية لا تزال تُبهر العالم بجمالها وعبقريتها.

كثيرةٌ هي الأشياء التي كان يمكن لها أن تذكر في المحاضرة لمقاربة مسألة التراجيديا عند دوستويفسكي بشكل أوفى وأكثر إحاطة ونجاعة لو لم يكن المحاضر قد ارتأى -مثلما أخبرنا في تقديم المحاضرة- أن لا يحشد ورقته بالمعلومات التي يمكن لأي أحد العثور عليها بيسر وسهولة من شبكة الإنترنت، بحسب رأيه، وأن يقصر جهوده على محاولة تقديم رؤية شخصية تمناها جديدة حول جذور التراجيديا والعوامل التي شكلتها وكرستها في كتابات الروائي الكبير. رؤيته تلك تلخصت في التأكيد على وجود عوامل محددة ساهمت أكثر من غيرها في خلق حالة التراجيديا عند دوستويفسكي مثل مقتل أبيه ومرضه بالصرع والحكم عليه بالإعدام وغزو نابليون لروسيا. وفي الربط، المتكلف نوعاً ما، بين دوستويفسكي وبين شخصيات من التراث الديني والأدبي كالإمام الشافعي وامرؤ القيس من حيث مرورهم جميعاً بتجارب حياتية متشابهة وتقاربهم في بعض الأطروحات والأفكار. وهي رؤية بدت غامضة للبعض، حسبما اتضح في المناقشة التي أعقبت المحاضرة، وغير مقنعة للبعض الآخر.

ومع ذلك، لا يُمكن إرجاع ضعف المحاضرة لأسباب تخص المادة المقدمة وحدها. فهناك أيضاً التنظيم نفسه. فبدء المحاضرة متأخرة ربع ساعة أو أكثر عن موعدها الأصلي -وهو ما يحدث في كل مرة تقريباً- يعني اقتطاع شيء من عمر المحاضرة القصير أساساً. كما يعكس عدد الحضور الذي لم يتجاوز الخمسة عشرة شخصاً، حسب تقديري، ضعف الترويج للمحاضرة أو عدم جاذبيتها بالنسبة للمهتمين بالأدب والثقافة. وأسوأ ما يمكن أن يعكسه ذلك الحضور الضعيف هو وجود قناعة أشبه باليأس عند المتابعين للشأن الأدبي في السلطنة بخلو هذه الفعاليات مما يستحق عناء الحضور.

... إنَّ أي فعالية ثقافية جذابة بشكل كاف لقطاع واسع من المتابعين، عليها أن تهتم كثيراً بدسامة المادة المقدمة، وبتمكن المحاضر المناقش منها. فالمتابعون للشأن الثقافي اليوم أوسع معرفة من أي زمن مضى، وأكثر تطلُّبا بالتالي، ولا يمكن إرضاؤهم بالضحل من المحاضرات. كما ينبغي التركيز على الترويج للمحاضرة مبكراً وبكثافة واستهداف الفئة الأقرب لموضوع الفعالية لأنها بطبيعة الحال الأكثر ميلاً لتلبية الدعوة وإثراء الفعالية بالمناقشة الجادة المتعمقة. وأخيراً، لا يُمكن إغفال ضرورة اختيار الوقت المناسب للمحاضرة والالتزام بموعدها المقرر حفظاً للوقت المرصود لها.