طوفان العناوين المشتهاة

 

فيصل الحضرمي

في عالم اليوم، عالم الغرق في الخيارات اللانهائية للاستلذاذ والاندهاش والاستمتاع، تتشتت تحرقاتنا ولهفاتنا للأصيل والرائع والجميل، وتتشرذم أسفارنا نحو المُثير والفاتن والبديع كما لو أنّ الإبرة الممغنطة للبوصلة الهادية قد أصابها العطب من كثرة الشمالات (تولي إبرة البوصلة وجهها شطر الشمال). وقبل أن نصل إلى وجهتنا المُعلنة، نكون قد انحرفنا (لحسن الحظ و/أو سوئه) إلى عشرات الوجهات التي لا تقل عن وجهتنا الأولى طغياناً مرغوباً، واستبداداً محبباً. دون أن ننسى أن الوجهة الأولى نفسها لم تكن سوى انزلاق سابق عن الطريق المتاهة التي نحج عبرها إلى قبلاتنا المتحولة.

تقترح علينا كل يوم عشرات العناوين. الأصدقاء الذين نثق بذائقتهم يصفون في رفوف مكتباتنا الافتراضية أجمل الكتب والأفلام والمقطوعات الموسيقية التي وقعوا في غرامها فأحبوا أن نناصفهم عشقها. وآخرون لسنا متأكدين من جودة خياراتهم يقذفوننا بعناوين، ربما اطلعوا عليها وربما لن يفعلوا أبداً، وكل ما في الأمر أن شهرتها توحي لهم بأنّها تستحق الاطلاع. ويقترح علينا الكتاب في كتاباتهم، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، أن نقرأ هذا الكتاب أو نستمع لتلك المعزوفة أو نشاهد لوحة من اللوحات كما فعل معي إدوارد سعيد في "الأسلوب المتأخر" قبل شهر، وكما فعل صالح العامري في "فرجار الراعي" قبل أسبوعين، وكما فعل بورخيس بالأمس في مقدمة رواية "اختراع موريل" لكاساريس، وكما فعلت الرواية نفسها، وكما يفعل جميع الكتاب تقريباً، وجميع الكتب. وكما تفعل الآن هذه المقالة بلا شك.

كل شيء من حولنا تقريباً يسهم في رفد طوفان العناوين الذي يجرفنا معه دون حول منِّا ولا قوة، ودون أن يكون باستطاعتنا إبطاء إيقاعه المجنون. التلفزيون والراديو والصحف والمجلات لم تفقد بعد فاعليتها في إمدادنا بالعناوين الجديدة علينا، أو تذكيرنا بالمألوف منها مما لم نتمكن بعد من إرواء توقنا إلى استكشافه. أما الوسائط الإنترنتية كاليوتيوب والفيسبوك والتويتر والواتس آب وغيرها فقد تفوقت على وسائل الإعلام التقليدية بما لا يمكن قياسه في هذا المجال، بحيث يمكن القول بأنّ طوفان العناوين سيُواصل جريانه العنيف بنفس الزخم والعنفوان حتى لو أصبحت الوسائل التقليدية ذات يوم ذكرى من الماضي.

ما الحل إذن؟ كيف يوجه المرء نفسه؟ ماذا يقرأ؟ وماذا يشاهد؟ وإلى ماذا يستمع؟ كيف ينتقي من بين لا نهائية الخيارات؟ ربما يعتقد البعض أنّ الأصوب هو أن تقوم بما يخطر ببالك دون أن تتردد كثيراً. وعندما تنتهي من عنوان لا تفكر كثيراً وانتقل إلى أول عنوان يتبادر لذهنك. ولكن هل هذه الطريقة ناجحة دائماً؟ ربما تكون كفيلة بتجنيبنا الوقوع  في الحيرة المزعجة التي تصادفنا في مواقف مماثلة، ولكن لأنّها عشوائية وغير مدروسة فإنّها ستصدمنا ولا شك بأعمال لن تروق لنا، كما أنها لن تخدم أولئك الذين يطالعون لهدف آخر عدا التسلية المحضة وتزجية الوقت.

فكل من يُطالع مادة مقروءة أو مرئية بهدف بناء ثقافته في حقل محدد من المعرفة، أو فن من الفنون، أو لتطوير قدراته الإبداعية ككاتب أو كفنان، يتمنى لو كانت هناك قائمة واحدة ونهائية تشمل جميع العناوين التي عليه الاطلاع عليها، وبالترتيب الزماني إن أمكن، بحيث لو التزم بها حرفياً لوصل إلى غايته بأسهل وأسرع السبل، ولكن لأن هذه القائمة غير ممكنة الوجود فإنّه من الأفضل التفكير في حل آخر أكثر عملية من قبيل تضييق دائرة الاهتمامات أولاً وحصرها في عدد محدد من الحقول المعرفية والإبداعية، ومن ثمّ إعداد قائمة بالعناوين المندرجة في هذه الحقول والمنتقاة جيداً عبر اقتراحات موثوق بها والالتزام بهذه القائمة قدر الإمكان. لن تكون هذه القائمة نهائية بالطبع، فسيتعين علينا بمرور الوقت تطعيمها بالمزيد والمزيد من العناوين، ولكنها أفضل ما أستطيع التفكير به كحل للتعاطي مع التدفق الساحق للعناوين التي تتناسل دون توقف وبوتيرة متسارعة.

قذف بنا الانفجار الأكبر للمعرفة والتكنولوجيا في قلب المحيط الشاسع للإبداعات البشرية التي ما عاد يحدها زمان أو مكان أو نقص في إمكانات الإبهار. وصار علينا الاختيار. وهو اختيار مؤلم يؤكد الوجه القاسي الذي يُمكن أن تقابلنا به الحرية. الحرية الإجبارية في ترجيح خيار على آخر، كما الحرية الإجبارية في اختيار المعنى (أو اللامعنى) الذي نُريد إضفاءه على الحياة بشكل عام (جان بول سارتر). ولو قدر للفيلسوف الوجودي أن يتحدث إلينا مجدداً لقال: "ألم أخبركم أنّ الحرية حكم وإدانة؟". الحرية التي هي عقوبة علينا تنفيذها، وبطريقتنا. لكنها عقوبة لذيذة رغم  إدعاءاتنا، ويعرف ذلك كل من أباح لروائع المعرفة والإبداع أن تسحره بالعجب المُتدفق منها كينبوع، ليصير جميلاً كزهرة (بول  فالري).