جنَّة في قلب الخليج (1)

 

 

عمَّار الغزالي

يَدفعنا الانبهار دائماً صَوْب سِحْر العواصم الأوروبية، مندهشين بتطورها ونظافتها، فنقطع المسافات الطوال، والرحلات الشاقة، مُتكبدِّين عناء السفر ووعثاءه، بحثا عن الاستجمام والتمتع بالمناظر الخلابة. وربما نقضي ساعات تزيد عن "نصف يوم" على مقعد داخل طائرة، لينتهي بنا المطاف في رحلة لا تتوافق مع ما نصبو إليه، نتيجة اختلاف اللغة والعادات والتقاليد، أو حتى الأجواء التي قد تنافي المتوقَّع.

رغم أنَّ وقتا قد يقلُّ عن ذلك بكثير تقضيه على متن الطائرة من مسقط العامرة، كفيل بأن يضعك في قلب أرض اللُّبان.. صلالة الأبية، تلك القابعة في جنوب السلطنة، تستقبلك بحُلتها البهية وأناقة المدن السياحية العالمية، طباعةً على وجنتيك رذاذ خريفها الرائع، وناثرة على جنبات جبالها الشاهقات خضرة الطبيعة التي تمتد على مساحات لا يدركها البصر، وتلتحفكُ سماؤها بسحابها وضبابها الساحر.. كأرجوزة جغرافية تنقلك إلى حيث فضاءات الاستجمام باتساع رحابتها.

فصلالة -أو بتعبير أوسع محافظة ظُفار- مدينة ساحرة بكل المقاييس بما تجمعه من متناقضات، فبصحرائها التي تلامس الجبالٍ، تحتضن شواطى بيضاء وبحارا زاخرة بمختلف أنواع الحيوانات البحرية، حتى "سفينة الصحراء" الذي نادراً ما تراه خارج حدود الرمال الصفراء، تراه في ظفار بكل مكان في الصحاري وفوق الجبال وعلى الشواطئ؛ لتقف ظفار مفاخرة بثرائها الطبيعي والتاريخي والجغرافي. فعطفا على ما سبقت الإشارة إليه؛ تضم المحافظة عددًا من المواقع السياحية؛ ممثلة بعيون مائية تختزن في جعبتها مناظر الطبيعة والجمال؛ فتبهج "عين جرزيز" بجمالها كل من تطأ قدماه أرض اللبان، بمياهها الطبيعية التي تقع في محيط مجموعة من الكهوف، و"عين رزات" بينابيعها الطبيعية التي تتدفق من وسط الصخور وتتجمع بعدها في بركة، ومن ثم تنساب في مجرى يتفرع وسط بساتين خضراء قبل أن تصبُّ في البحر، و"وادي دربات" بجماله الأخاذ وما يتخلله من شلالات تبدأ في الجريان عند هطول الأمطار في فصل الخريف.

وجنبا إلى جنب مع رونق الطبيعة، تبرز المواقع الأثرية حاكية تاريخ وطن اسمه "عُمان"؛ ويأتي على رأسها: "البليد" (الواقع ضمن قائمة التراث العالمي التابع لمنظمة اليونسكو)، والذي اشتهر في السابق بتجارته النشطة في اللبان والخيول العربية، إضافة للاكتشافات الأثرية المتتالية من فخاريات إسلامية وخزف صيني وعملات برونزية من عهد القرون الإسلامية الأولى.

وإذا ما يمَّمت وجهك شطر خور روري "سمهرم" بآثاره، تجد مدينة حجرية مسوَّرة، نُقش على جدرانها بخمس كتابات عربية أبجدية تصف تأسيس تاريخ تلك المدينة الخالدة. وفي ثمريت -التي تبعد نحو 100 كليو مترا عن مدينة صلالة- يبرز موقع شصر الأثري، الذي يُعتقد أنَّ ملكة سبأ قامت بزيارته للتزود باللبان، بحسب ما أشارت إليه المسوحات الأثرية التي تمت في بداية التسعينيات، إلى أن يحط بك المطاف في مدينة سدح بمنحدراتها الصخرية، التي تعتبر قبلة لمحبي التخييم وركوب الزوارق.

وفي القلب من كل هذا، ترتدي صلالة أثوابًا قشيبة؛ مع أول نزول لقطرة ندى في يونيو من كل عام، إيذانا ببدء موسم الخريف.. ذاك الموسم السنوي الثابت، الذي يجتذب إليه الزوار من كل حدب وصوب، في مشهدٍ يتكرَّر كل عام، ولكن للأسف تتجدَّد معه أيضا العديد من التساؤلات..!

فعلى الرغم من نسب الإشغال في الخريف التي تصل إلى 100% في كافة الخدمات، وعدد الزوار الذي يترفع عامًا تلو العام، وما باتت تتمتع به "مدينة الضباب" كقبلة سياحية، ومورد اقتصادي مهم من المفترض أن يرفد خزينة الدولة بالمزيد والمزيد، نصطدم بضعف خدماتي ملحوظ أيام موسم الخريف، وانخفاض حاد في نسب الزائرين عقب انتهاء الموسم، رغم أن صلالة خصوصا -ومحافظة ظفار على وجه العموم- وبعد تراجع الغيوم وهدوء الأمطار، تتوهَّج بنضارة الربيع الذي يعرف محليًّا بـ"الصرب"، وتكتسي لون البهجة والفرح في أجواء معتدلة تمثل موسما استثنائيًّا آخر، لكنه يفقتد للترويج أو التسويق السياحي الذي يضمن استثماره بشكل جيد، يُمكن من خلاله المساهمة في رفد منظومتنا الاقتصادية.

وبحسب عالم الاقتصاد مايكل بورتر خبير الإستراتيجية التنافسية للدول والشركات الكبرى والمدن الاقتصادية -وهو الأشهر بالعالم في هذا المجال- فإنَّ زمن معادلات العرض والطلب ولَّى، وأن المستقبل لمن يصنع الطلب بجودة الخدمة وتميزها، ومصداقاً لذالك فإنَّ الكثير من المدن بها مُقوِّمات طبيعية أقل من صلالة ولكن عدد زوَّراها أكثر بكثير، مما يشرع الأبواب أمام أهمية بل وضرورة إجراء المزيد من الدراسات والنقاشات الجادة بمزيد من التمعُّن والنظر؛ لضمان إشراك "السياحة الظفارية" ضمن بنود الموازنة العامة للدولة في قادم الأعوام؛ من خلال خطط إستراتيجية تضمن استغلال مواردها أيما استغلال، والترويج لها في كافة المحافل الدولية لاستقطاب أعداد أكبر من الزوار طوال أيام العام، فمن واقع إقامتي في صلالة أرى أن "الربيع" في بهائه لا يقل عن "الخريف" في نضارته، فكلاهما كنزٌ طبيعيٌّ زاخر وهِبَة من المولى تستحق الشكر؛ باستثمارها والاعتناء بها وتطويرها وضمان استدامتها.

إنَّ محافظة ظفار -أو حتى صلالة الساحرة- لا ينقصها شيء حتى لا تحتل مكاناً مرموقاً كمدينة سياحية عالمية. لكنَّ التحدي الحقيقي هو استدامة هذا الجذب السياحي طيلة العام، بما ينعش هذا القطاع الواعد ويخدم اقتصادنا الوطني ويخلق مزيدًا من فرص العمل، ويحد من عبور الأموال إلى الخارج؛ مما يضع على عاتق مسؤولينا ضرورة تشجيع القطاع الخاص لولوج هذا المجال، بالإعلان عن حزمة حوافز تسهم في تنشيط القطاع السياحي بشكل عام، وتعمل على تفعيل أدوار المجتمعات المحلية كل في موقعه وحسب اختصاصاته، بما يكون له مردود على زيادة الإقبال وتخفيف السفر إلى الخارج.

فما يُثير العَجَب أنْ تقل نسبة الإشغال لبعض الفنادق في صلالة عن 10% بعد "موسم الخريف"، رغم توافرها على مقومات كفيلة بوضعها على قائمة "السياحة مستدامة"؛ وتعزيز مكانتها بما يليق وإرثها التاريخي والحضاري التليد.

إنَّ أرض اللبان والضباب، تستحق حقيقة لقب "جنة الخليج"، ولكنها "جنة موسمية" تحتاج مزيدًا من التخطيط السليم لتعزيز سياحتنا الداخلية عبر مقوِّمات توظِّف البيئة المتنوعة في طبيعة السلطنة، وتؤهِّل لاقتصاد مفتوح على بدائل جديدة تخدم واقعنا التنموي، وهو ما سنتعرض له بشيء من التفصيل خلال المقالات القادمة، بإذن الله تعالى... ويتجدد اللقاء!