السِّلم الأهلي بين مسؤوليَّة الدولة وواجبات المواطن

 

 

عبيدلي العبيدلي

كلما ازدادت حدة الصراعات في المنطقة العربية، أو في دول لها علاقة بتلك الصراعات مثل تركيا، ازداد حضور الحاجة إلى السِّلم الأهلي بمعناه الشامل المتكامل، الذي لا يحصر نفسه في الدوائر الضيقة القصيرة المدى التي تحاول الدوائر الأجنبية ذات المصلحة في المنطقة أسره فيها من أجل تحطيم قيم ومشروعات السلم الأهلي بين سكانها. لأن في إطار ذلك الهدم تنمو عوامل تمكين تلك القوى الغاشمة من إحكام قبضتها على المنطقة العربية ومقدراتها.

وقبل تناول الحديث عما يمكن أن يوصف بــ "أزمة السلم الأهلي" في المنطقة العربية لا بد من التوقف عند ثلاث حقائق إستراتيجية تستحق الإشارة لها، عند معالجة شمولية متعددة الأوجه لقضية السلم الأهلي في المنطقة العربية.

أولى تلك الحقائق، أنه بعيدا عن الوقوع ضحايا نظرية "المؤامرة"، لا بد من التأكيد على أن الأيدي الدولية هي اللاعب الأول والرئيس الذي يعبث بأي مساع لإشاعة السلم الأهلي في المنطقة العربية، وتكريس قيمه وسلوكياته، ومن ثم يشوه برامجه، ويحرفها عن مسارها السليم الذي ينبغي لها أن تسلكه. هذه الأيادي، وتقودها الولايات المتحدة الأمريكية، ترى في أي شكل من أشكال السلم الأهلي تهديدا مباشرا لمرتكزات إستراتيجيتها الدولية تجاه هذه المنطقة التي تتمحور حول ثلاثة أهداف؛ هي: ضمان أمن وسلامة الكيان الصهيوني ضد أي تهديد قائم أو مستقبلي من شأنه تعريض هذا الكيان لأي شكل من أشكال الانتقاص من دوره الاستعماري في نطاق المشروع الأمريكي تجاه هذه المنطقة. يتكامل ذلك على نحو جدلي مع حرص واشنطن على ضمان تدفق النفط العربي بالكميات التي تحتاجها أسواقها، وفي بعض الأحيان أسواق حلفائها، بالكميات المطلوبة، والأسعار المنطقية التي تنعش اقتصادها، ولا تشكل إرباكا لآليات تطوره. هذا لا يعني الزيادة المطلقة في كميات الإنتاج، وبالقدر ذاته أيضا لا يعني الخفض المستمر لأسعار ذلك النفط، وتكتمل حلقة تلك الإستراتيجية بضمان واشنطن استمرار توقيع اتفاقيات التسلح كي تحقق عودة كلفة شرائها للنفط إلى خزائنها!

ثاني تلك الحقائق أن هذه المنطقة هي نقطة التقاء مركزية دولية لقارات العالم القديم: آسيا، وإفريقيا، وأوروبا، ومن ثم، ورغم بزوغ شمس الولايات المتحدة، لكنها عجزت عن جر مركز العلاقات الدولية من هذه المنطقة نحو أمريكا بقارتيها الشمالية والجنوبية، ومن ثم، فمن الطبيعي أن تتفاعل فوق أراضي هذه القارات، وفي القلب منها منطقة الشرق الأوسط، وتحتل الرقعة الأساس فيها الدول العربية، بشكل متصاعد وعنيف الصراعات الدولية. ضاعف من تأجيج هذه الصراعات في المرحلة التي أعقبت الحرب الكونية الثانية، اكتشاف النفط بأسعار زهيدة نسبيا، وتحوله إلى سلعة إستراتيجية عالمية تفرض نفسها بقوة على مائدة العلاقات الدولية. ومن ثم فمن الطبيعي أن تكون هذه الصراعات هي فتيل الحريق الذي يلتهم مشروعات السلم الأهلي الجادة من أجل ضمان استقرار المنطقة وإشاعة السلم الأهلي في ربوعها.

ثالث تلك الحقائق، قُدِّر لهذه المنطقة أن تحتضن فسيفساء متعددة الأوجه عندما يتعلق الأمر بتركيبتها السكانية، فمن التنوع الديني، حيث نزلت فوق أرضها آخر الديانات السماوية وأكثرها انتشارا على الصعيد الدولي، وهي اليهودية والمسيحية والإسلام، مرورا بالتنوع الإثني، توقفا، دون انتهاء بالتعدد الطائفي. وفوق هذه جميعا هناك الانتماء الفكري. مثل هذا التنوع يمكن أن يقود نحو أمرين: أولهما تعايش سلمي راق يقوم على اقتناع داخلي لدى الفرد بضرورة التعايش مع الآخر، وأهمية الاعتراف بحقه في ممارسة قيمه في إطار مجتمع متعايش سلميا، وثانيهما رفض لكل ذلك الأمر الذي من شأنه إنعاش معاول هدم أي شكل من أشكال السلم الأهلي، مهما كانت واهية.

هذه الحقائق تضع معادلة التأسيس لسلم أهلي مستقر ودائم أمام تحديات حقيقية تتطلب تضافر جهود قوتين مجتمعتين.

الأولى منهما الدولة، التي تقع على عاتقها ضرورة اقتناع دوائر صنع القرار فيها بدور قيم السلم الاهلي في استقرار المجتمع المعني، ومن ثم إرساء قواعد تطوره، وعلى نحو مواز ومتكامل مسؤولية تلمس متطلبات السلم الأهلي ومقومات استمراره، كعامل مساعد في استقرار المجتمع. وهذا بطبيعة الحال يقود الدولة المعنية نحو وضع التشريعات، وسن القوانين، وبناء الأنظمة، وتأهيل الموظفين، في إطار وطني شامل يضمن تكامل منظومة السلم الأهلي ويكفل نموها وتطورها.

القوة الثانية منهما هي المواطن ذاته، فهناك مفهوم خاطئ يسود سلوك المواطن العربي يقوم على أن مسؤولية تحقيق السلم الأهلي في المجتمع تقع على عاتق الدولة وحدها، في حين تؤكد أدبيات السلم الأهلي على أن المسؤولية مشتركة يتقاسمها المواطن والدولة عل حد سواء. فبقدر ما يطالب المواطن الدولة ان تقوم بواجباتها تجاه إشاعة السلم الأهلي، بقدر ما تناشد الدولة مواطنيها ان يهضموا قيم السلم الأهلي ويتشبعوا بمفاهيمه ويمارسوا طقوسه. معادلة التكامل هذه بين مسؤوليات الدولة وواجبات المواطن لضمان شيوع السلم الأهلي في المجتمع العربي يلخصها الكاتب رياض هاني بهار، على موقع "الحوار المتمدن"، الإلكتروني حين يؤكد على أنَّ "مقوّمات السلم الأهلي، وضمانات الاستقرار، ومرتكزات الوحدة الوطنية، ومضامين الدولة القوية والقادرة والعادلة، أمران متكاملان ومتلازمان في المقدمات والنتائج هما:

1- التماسك وثقافة الإخاء والتعاون بين المواطنين، والعلاقة بين الدولة ومواطنيها على قاعدة الحقوق والواجبات وفقاً لروح القانون والنفع العام.

2- التحوط من الدعايات والتسريبات ذات الانغلاق الطائفي، والانحباس المذهبي، والإحباط النفسي، والتخويف المناطقي، وما إلى ذلك من مفردات وعناوين ومقالات وتحليلات تستهدف البنية المعنوية للرأي العام العراقي، وتهدم البنية المؤسساتية للدولة غير المكتملة، وتؤدي إلى الانشقاق والمنازعات الدخيلة والطارئة على الحياة السوية والسليمة والسلمية والمعطاءة بين العراقيين".