عيسى الرواحي
تتعدد وجهات السائحين في شتى بقاع الأرض، وتتنوع مقاصدهم، ويبذلون أموالا طائلة وأوقاتا كثيرة لأجل إمتاع النظر، وإراحة الجسد، وإسعاد النفس، لكن أعظم وجهة يتجه إليها السائح المسلم، وفيها يحقق أنبل مقصد، وأسمى هدف للسياحة؛ هي زيارة بيت الله الحرام، مهوى اﻷفئدة وملاذ الحائرين، فهو أول بيت وضع على هذه البسيطة يقول الله تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ* فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِين) سورة آل عمران:96-97.
هو المكان الذي تشتاقه اﻷنفس وتحن إليه اﻷفئدة، يقصده المسلمون من شتى بقاع اﻷرض باذلين ﻷجل الوصول إليه الغالي والنفيس، متقربين بذلك إلى ربّ اﻷرض والسماوات، ساكبين فيه عبراتهم وطارحين دعواتهم (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (البقرة:125). وكيف لا يكون أعظم وجهة للمسلمين، والصلاة فيه بمئة ألف صلاة حيث يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم-: "صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلاَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ وَصَلاَةٌ فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ"، كما أنه أحد المساجد الثلاثة الذي تشد إليه الرحال وأعظمها على الإطلاق، فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام، والمسجد الأقصى ومسجدي هذا ".
هو المكان الذي حرّم الله القتال فيه، فسمّاه البيت الحرام، أضف إلى أسمائه الأخرى كالبيت العتيق وبيت الله والبيت المبارك، وما كثرة الأسماء إلا لشرف المسمى، وبمجرد حديث النفس بالإساءة إليه فإنه يودي بصاحبها إلى عذاب الله وسخطه، يقول تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) سورة الحج: 25.
هو المكان العامر طيلة وقته بالعابدين الساجدين الراكعين القائمين الطائفين، فلا سكون الليل ولا قر الشتاء ولا حر الصيف يمنع عباد الله منه منذ أن شُيّدت معالمه وحتى اللحظة وإلى أن يرث الله اﻷرض ومن عليها (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) سورة المائدة: 97.
هو المكان الذي يحتضن الكعبة المشرفة التي شرّف الله قدرها وجعلها قبلة مرضية للمسلمين يقول تعالى: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ إنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) البقرة:144.
والكعبة المُشرفة ذات القدر الرفيع التي يؤجر الناظر إليها فكيف بالطائف حولها؟! التي قيل إنّ الملائكة المقربين أول من بناها ثمّ تعاقب على بنائها الأنبياء والمرسلون، يقول تعالى: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) سورة البقرة: 127
وحيث الناس يطوفون بها مبتدئين طوافهم بالحجر الأسود الذي هو ياقوتة من يواقيت الجنة، فيستجاب عنده الدعاء ويشهد لمن قبَّله يوم القيامة، وقد كان أشد بياضًا من اللبن؛ لولا خطايا بني آدم التي سودته، ولكن نشير إلى أنّه مهما يكن من فضل تقبيل الحجر الأسود فإنّه لا يليق بالمسلم أن يؤذي أخاه المسلم ويعاركه من أجل تحقيق هذا الفضل الذي ليس واجبًا على الطائف إتيانه.
وبما يلمحه البصر من سكب العبرات وتضرع الدعوات ويلمسه من خشوع وسكينة للطائفين والقائمين وقت الطواف، تأسف النفس وتضيق في ذات الوقت لأولئك الذين ما تركتهم أجهزة الاتصال وتقنيات تصويرها حتى في ذلك المكان الطاهر والوقت الثمين، فشغلتهم وألهتهم، وصار همّهم تصوير أنفسهم والتقاط أجمل صور لهم؛ حتى لتحزن كثيرًا في نفسك أن تشاهد كثرة ارتفاع الهواتف النقالة لالتقاط الصور، بكثرة ارتفاع الأيدي التي تدعو ربها وتتضرع إليه.
وعلى مدار القرون المتعاقبة والسنين المتلاحقة يشهد هذا البيت من الجلال والتعظيم والاهتمام والخدمة ما تعجز الألسنة عن وصفه، وفي يومنا هذا هناك المئات بل الآلاف وعشرات الآلاف من البشر الذي يقومون بخدمة بيت الله الحرام وخدمة زائريه، فهنيئا لكل من نال شرف هذه الخدمة، وحاز هذا الفضل.
وبما أنّ المسلم قد قطع آلاف الكيلومترات، وبذل ماله وحاله قاصدًا أشرف بيوت الله وأعظمها قدرا، فحري به أن يغتنم جميع أوقاته في كسب الفضل ونيل الأجر واغتنام الثواب بالدعاء والصلاة وتلاوة القرآن الكريم والذكر الكثير والتفكّر والاستغفار، تاركا أحاديث الدنيا، والقيل القال والاشتغال واللعب بأجهزة الاتصال وراء ظهره، فذاك مقام له جلاله وقدره، ولا يليق بمسلم أن يضيع فيه وقته فيما يحرمه من الفضل والثواب، ومهما سال القلم معبرا عن وجدان القلب في الحديث عن بيت الله الحرام، وحرمه الآمن، فإنما هي محاولة مقل لا أكثر للحديث عن قداسة ذلك المكان الذي تهواه الأفئدة، وتحن شوقا إليه.. والله المستعان.
issa808@moe.om