بعد خراب "مالطا"

 

هلال الزيدي

 

إذا كنا نعلم علم اليقين أنّ الفساد آفة خطيرة تعصف بالمجتمعات وتؤدي إلى تقويض بناء الديمقراطية فلماذا نكابر على قتل الكلمة، وتجفيف منابع الحبر عندما نطلق صفارات الإنذار بأنّ هناك رشوة واستغلالا لسلطة القرار في الشؤون الخاصة؟ ولماذا ننادي بالشفافية وجعلها كمزمار الحي الذي لا يطرب؟ وفي المقابل هناك بؤرة تتشكل من المنتفعين الذين لا تطولهم المساءلة ولا يعيرون مبادئ النزاهة أهمية، ولماذا ثمن الحرية باهظ في ظل البحث عن مرافئ الأمان والحفاظ على التنمية لتحقيق ازدهار الشعوب؟ وإلى متى نبقى نبحث عن أعذار كي نحقق النزاهة بداية من مواطئ أقدامنا؟ وهل اندثار الشفافية يعطينا الحق في البحث عن مصالح ذاتية تفقد الوطن هيبته؟

علامات استفهام طرحت نفسها مع التطورات الخطيرة التي تشهدها منظومة القضاء، بعد "خراب مالطا" إن جاز لي التعبير، فهل ما قرأناه عبر"صحيفة الزمن" من اعترافات بالرشوة واستغلال المنصب (إن صحت تلك الادعاءات)، كفيلة بأن نفتح صفحة جديدة؟ وهل ضياع الحقوق واستغلال ضعف المجتمع ونهب خيراته تكفيه الاعترافات ومن ثم تعود المياه لمجاريها؟ وهل الساكت عن الحق يكون بطلا قوميا تحت هدف ما يسمى "تصفية الحسابات"؟ فعلى الرغم من تلك التداعيات وانفكاك عقدة المسبحة إلا أنّ الحقيقة لا زالت غامضة، أو ربما لا زالت تُحضّر في الغرف المظلمة لتمرر تحت مسميات مختلفة للحفاظ على هيبة ووقار القضاء الذي يهتز عرشة كلما فقد ركن من أركانه في تحقيق العدالة، وهل يمكن اعتبار ما حدث انتصارا للسلطة الرابعة كما يحلو للبعض تسميته في ظل شح القوانين التي تحمي حقوق الصحافة؟ فإن كان كذلك فإنه من الخطير جدا أن تُغرد وسيلة واحدة في سرب البحث عن الحقيقة بينما الأُخريات لا زلن في بياتهن الصيفي خوفا من رمضاء الاعتقالات التي لا يعرف لها عنوان حتى الآن، لذلك نحن بحاجة إلى صياغة منظومة قضائية وأخرى صحفية من أجل تحقيق العدالة التي لم تحققها قاعات المحاكم في كثير من قضايا العباد.

الكل يعلم بأنّ هناك أجسادا مسيرة منكسرة ضعيفة تدير مصالح المجتمع أوجدتها الظروف، وفي المقابل هناك أجساد نزيهة لا ترضى المساس بحقوق المواطن وتحاول أن تحقق العدالة، إلا أن الأخيرة ظلت صامتة وكممت أفواهها خوفا من أن تنقلب عليها الدوائرة وتعزل كونها لم ترض بتجاوز حدودها أو استغلال منصبها، فهل هذا يعطيها العذر بأن تكون بعيدة؟ لذلك ونتيجة للضغوطات التي كبلت تلك الفئة حدث الانحراف في منظومة العدالة، ومن المؤكد أنّ شرفاء الوطن لا زالوا يبحثون عن فرصة لوقف ما يدور من مهازل ووقف الفساد الذي تعدى الحدود الإنسانية بكل وقاحة، لذلك ضاعت حقوق البشر، ولربما هناك قضايا كبيرة مسّت الوطن كشفتها الأجهزة الرقابية إلا أن الإدعاء العام ونظرًا لعدم فهم الدور المنوط به أو تقاطع المصالح أصر على حفظها في أدراج التاريخ حتى لا يتضرر "س" من الناس.

نعم للفساد كلفة باهظة الثمن تقض مضجع الاقتصاد والسياسة ويمس من هيبة الدولة التي بناها رجل حكيم زرع الثقة في أبناء هذا الوطن، فليس من الجميل أن يكون رد الجميل بالابتعاد عن الحق الذي يفضي إلى ارتكاب جرائم متعددة الأصناف أولها الإخلال بالواجبات الوظيفية وإساءة استعمال السلطة وانتشار الواسطة والمحسوبية والكسب غير المشروع وغيرها من الأصناف التي جاءت وأكد عليها النظام الأساسي للدولة، فالفساد هو اعتداء على حقوق المواطن وشرخ وحدة الصف الاجتماعي، لذلك لم يقتصر الفساد على صغار الموظفين "الفساد الصغير" وإنما هناك "فساد كبير" وهو ما تكشفه الأجهزة الرقابية حول قيام المسؤول الكبير بتجاوز صلاحياته والاستيلاء على مقدرات الوطن دون وجه حق.

مما لا شك فيه أن انتشار الفساد يكون بسبب طغيان السلطة التنفيذية على السلطة القضائية مثلا، وبالتالي تختل الموازين التي بدورها تغيب الشفافية المفضية إلى استغلال المنصب بما يخدم مصلحة مجموعة من الأفراد النافذين، كما أنّ هناك أسبابا كثيرة مرتبطة بحرية الكلمة ودور المجتمع في تعزيز أطر النزاهة في التعامل مع مكتسبات الوطن، فالمسؤول خادم للشعب عليه أن يحسن في قراراته ويعمل وفق قيم وأسس اجتماعية نزيهة.

إنّ اجتثاث الفساد لا يكون بالصورة البسيطة التي يتحدث عنها الجميع لأنّه لا يتشكل أي الفساد بصيغة فردية، وإنما وفق منظومة متشابكة ومترابطة من أصحاب النفوذ، وبالتالي لا يوجد قانون وضعي أوقف الفساد عن بكرة أبية، فمثلا: عدم التزام الموظف بمنهجية العمل تعتبر فسادا، وكذلك عبادة المسؤول وتقديم القربان له هي قمة الفساد وهي من توجد الطغاة الذين سيبحثون عن مصالحهم، إذاً الكل مطالب ألا يكون مطية للفساد أيا كان شكله.

ورقة التوت لا زالت باقية، "ولمّا" تسقط بعد، لأن الحقيقة في إرهاصاتها وتحتاج إلى مخاض عسير كي تتكشف سوءة الفساد، ومن يدري لعل ما يدور في الأوساط الحالية هو بداية لجني موسم "الرمان"، وحتى لا يكون الاعتراف كخراب مالطا، علينا أن ننقذ ما يمكن إنقاذه حفاظا على هيبة القضاء.

همسة:

أيّها الموظف كن صادقا.. كن عابدا لعملك لا لمسؤولك.. فيا أيّها النافذون عليكم أن تضعوا الشخص المناسب في المكان المناسب.. ويا أيها المسؤولون ركزوا في مجال واحد ودعوا لكل تخصص تخصصه لأنكم لا تفقهون كل شيء، حتى لا يفوتكم كل شيء.

*كاتبٌ وإعلامي

abuzaidi2007@hotmail.com