أولمبياد موسكو والرياضيون الروس

ياسر قبيلات

لا يخطئ المرء إن تجاهل كلَّ الحيثيات والذرائع الفنية التي أحاطت بمحاولة حرمان الرياضيين الروس من المشاركة في "أولمبياد ريو"، وقفز فوراً للبحث عن الأسباب السياسية؛ ليس لأن اللاعبين الروس بعيدون عن إغراء استخدام المنشطات. ولكن لأن الإتهام لم يتوقف عندهم وحسب، بل سعى بإصرار إلى إدانة روسيا نفسها، بزعمه استخدام المنشطات "برعاية رسمية من الدولة".

وفي السياق ذاته، لا يمكن تجاهل أن هذا الاتهام كان يحظى برعاية "الوكالة الأمريكية"، التي حاولتْ أن تؤسس حوله اصطفافاً دولياً، ما يلفت الإنتباه إلى حقيقة أن الجهات، التي تقف وراء هذا الاتهام، مجبولة على اتهام موسكو، ولم تعرف في تاريخها شكلاً آخر للعلاقة مع روسيا سوى العداء.

ولنعد إلى الوراء قليلاً..

هؤلاء الذين حاولوا اليوم حرمان الرياضيين الروس من المشاركة في المنافسة الرياضة الدولية الأهم، هم أنفسهم من حاول في مطلع الثمانينات محاصرة "أولمبياد موسكو" الشهير، وإفشاله بالمقاطعة. مع فارق أن الأسباب السياسية كانت صريحة وعلنية آنذاك، بينما يتم اليوم إخفاؤها وراء مزاعم "قانونية".

ودعونا نتذكر بعض الحيثيات اللافتة..

كانت الحجة السياسية في مقاطعة أولمبياد موسكو هي التدخل السوفيتي في أفغانستان. أما اليوم فيمكن التكهن بأن الحجة السياسية الغائبة هي المواقف الروسية الصلبة من القضايا الدولية، وفي مقدمتها المسألة الأوكرانية واستعادة القرم ومواجهة الإرهاب في سوريا.

مطلع الثمانينات، كان الإرهابيون منتجاً أمريكياً جديداً، ولم تكن شرورهم قد ظهرت بعد في الشوارع الأمريكية والأوروبية. لذا، كان سهلاً على الغرب تسويقهم على مواطنيه باعتبارهم "مجاهدون من أجل الحرية"؛ وبالتالي كان من الممكن اتخاذ خطوات علنية وصريحة في دعمهم، سواء من خلال مقاطعة "أولمبياد موسكو" أو مدهم بالسلاح الفتاك.

اليوم.. في الوقت الذي تجتاح فيه شرور هؤلاء الإرهابيين انفسهم شوارع العالم قاطبة، وفي صدارتها الشوارع الغربية، فإنه من الصعب تماماً دعمهم علناً، في حين لا تسهل "معاقبة" روسيا صراحة، بينما هي تكافحهم في أشد بؤر تواجدهم خطورة؛ لذا، دفعت الحاجة إلى ذرائع مقبولة إلى تغييب الأسباب السياسية الحقيقية، وقادت إلى رفع تلك المزاعم "القانونية" بوجه مشاركة الرياضيين الروس في "أولمبياد ريو".

المفارقة، أنَّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين موجود في كل من الموقفين.. فإبان أولمبياد موسكو، كان ضابطاً جديداً في أول سلم المهنة الأمنية، وشارك مع غيره من زملائه في خطة تأمين المنافسات الرياضية الأممية والعاصمة السوفيتية أثناء ذلك الحدث الكبير. واليوم، شاء القدر أن يكون في قمة المسؤولية السياسية، وفي صدارة الدفاع عن حق الرياضيين الروس في منافسة نزيهة، ومساهماً رئيساً في تأمين سلامة الفكرة الأولمبية، التي تسعى إلى توطيد قيم السلام العالمي، من العبث السياسي.

المفارقات لا تنتهي هنا..

ففي ظل المواجهة مع الدولة السوفيتية، كان الغرب يصر على توجيه عداءه نحو روسيا بالذات، ولا يرى في السوفيت إلا "روس" خطرون. ولكنه بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وولادة الفيدرالية الروسية، وتحولها إلى دولة أصيلة وفاعلة في المنظومة الرأسمالية، عاداها بنفس القوة، مصراً على رؤية شبح الاتحاد السوفيتي فيها، فيما يتهم القيادة الروسية بأنها ذات مزاج سوفيتي.

على أيِّ جانب يجب أن تستلقي روسيا لكي لا تعود عدواً؟!

إنَّ الإرادة التي حاولت إقصاء الرياضيين الروس تعيش بلا شك حالة نكران فادحة، ولا تريد أن تعترف أن من غير الممكن أن يكون الأولمباد "أولمبياداً" دون منافسة الرياضيين الروس. وهذا يوازي تماماً محاولات الأمريكيين وحلفاؤهم عزل روسيا ومحاصرتها بالاتهامات، التي تنطلق من بقايا إرادة تعيش حالة نكران سياسية مماثلة، تحاول ما أمكنها رفض الاعتراف بحقيقة أن روسيا باتت حجر أساس في الواقع الدولي، بأبعاده كافة.