عيسى بن علي الرواحي
لم يسلم النبي الكريم _عليه أفضل الصلاة والسلام_ حاله كحال اﻷنبياء الكرام السابقين من أذى قومه، واتِّهامهم إياه بتُهمٍ شتى كالسحر والجنون والكهانة وغيرها، ويكاد يفوق اﻷنبياء في كثرة التُّهم المنسوبة إليه سواء من بني قومه المُشركين أو المُنافقين أو اليهود، ومن ضمن التُّهم التي وجهها المنافقون إلى الرسول _عليه الصلاة والسلام_ هو أنه (أذنٌ سامعة) أي يسمع كل ما يُقال ويُصدقه دون أن يتأكد، وأنه سرعان ما ينخدع بالحديث.
ويروى أنَّ جماعة من المُنافقين كانوا يؤذون النبي _عليه الصلاة والسلام_ ويقولون عنه ما لا ينبغي، فقال بعضهم: إنِّا نخاف أن يبلغه ما نقوله عنه، فيقع بنا، فقال أحدهم وهو الجلاس بن سويد وقيل نبتل بن الحارث: بل نقول ما شئنا، ثم نأتيه فننكر ما قلنا، ونحلف فيُصدقنا بما نقول؛ فإنما محمد أذن أي: أذن سامعة. فأنزل الله تعالى آية قرآنية تفضحهم وتبرئه من تهمتهم إليه، وتصفه بأنّه أذن خير يعرف الصادق من الكاذب يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين أي ويُصدق المؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم وهو حجة على الكافرين، يقول الله تعالى: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ۚ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ۚ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [سورة التوبة : 61[ ولمزيد فائدة فإن لفظة (أذن) الثانية تقرأ باﻹضافة إلى لفظة (خير) وقراءة ثانية أن تقرأ اللفظتان (أذنٌ خيرٌ) بتنوين الضم باعتبار أنهما مبتدأ وخبر.
هذه المُقدمة التي أوضحت من خلالها الخلق الذميم (أذن سامعة) أي تصدق كل ما تسمعه، والتي اتهم بها النبي الكريم _عليه الصلاة والسلام_ من قبل المحكوم عليهم بالدرك اﻷسفل من النَّار أصبح _وللأسف الشديد_ واقع كثير من النَّاس في يومنا خاصة في ظل وجود التقنيات الحديثة ومواقع التواصل الاجتماعي؛ فقد أصبح الواحد يُصدق اﻵخر دون أن يعرفه أو يتعامل معه، ويقوم بنقل اﻷخبار والأقاويل دون تثبت وروية؛ ولهذا صارت الشائعات صفة حاضرة في مجتمعنا ومجتمعات كثيرة.
وقد حذَّر الرسول _ صلى الله عليه وسلم_ من هذه الصفة الذميمة فقد روي عنه أنّه قال:( كفى بالمرء كذبًا أن يُحدِّث بكل ما يسمع) وقوله: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ وَوَأْدَ الْبَنَاتِ وَمَنَعَ وَهَاتِ وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ) واﻷسلم للمرء كما هو معلوم أن ينتهج المنهج النبوي في الحديث الشريف الذي رواه أبو هريرة _رضي الله عنه_ وهو قوله _عليه الصلاة والسلام_ :( من كان يؤمن بالله واليوم اﻵخر فليقل خيراً أو ليصمت).
لقد أوضحت في مقال سابق تحت عنوان (الشائعات آفة المجتمعات) نشر في مارس 2013م، عدة نقاط ينبغي للمرء أن يأخذ بها، ويجعلها حاضرة في ذهنه دوماً عندمًا يتعامل مع اﻷخبار والأحداث، وهي أمور ينبغي أو يجب أن يتخلق بها المسلم وكلها تصب في مصلحته بوجه خاص ومصلحة المجتمع بوجه عام، ومنها أن يراعي حرمة المسلم حيًا كان أم ميتًا، وأن يتحلى بخلق الستر على إخوانه المُسلمين حتى مع كون اﻷخبار المنقولة صحيحة لا غبار عليها؛ فمن ستر مسلماً ستره الله تعالى، ولا ريب أنَّ إثبات اﻷخبار ونفيها أصبح اليوم من اﻷمور الصعبة الغامضة في أحيان كثيرة بل إنه _وللأسف الشديد_ صارت وسائل إعلامية كثيرة مصدرا لنقل اﻷخبار الكاذبة والشائعات حتى صار المرء حائرًا أين يجد الحقيقة، وأين يكمن مصدرها.
ومنها أن ينظر إلى الفائدة المرجوة التي تعود عليه وعلى اﻵخرين من نقل الخبر؛ وﻷجل ذلك فإنَّ اﻷسلم للمرء ألا يتحدث بخبر لا يرى من نقله فائدة؛ خاصة في ظل الغموض الذي يلف كثيرًا من الحقائق، والتزييف الكبير الذي يعتريها، وأن يحرص ألا ينطبق عليه قول الله تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) [سورة النساء : 83] وقد علق خطيب فقيه حول هذه اﻵية الكريمة بقوله:" وهذا تأديب من الله لعباده، أن يردوا هذه الإشاعات والأخبار إلى أهل الرأي وأهل العلم، وأهل النصح وأهل العقل، وأهل الرزانة وأهل الخبرة، الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضدها، فإن رأوا فائدة في نشره نشروه بعد التأكد منه، وإن كانت المصلحة في كتمه كتموه وأمروا بكتمه، فهذه الأخبار الكاذبة والإشاعات، كالعملة المزيفة، يصكها مجرمون عُتاة، ويتناقلها العامة والمساكين، وتستمر بأيديهم زمناً دون أن يعلموا ما يفعلون".
ومما هو معلوم أنَّ للشائعات أهدافاً لمرضى القلوب كزرع الفتنة وتشويه السمعة وزعزعة الاستقرار والتشفي وبث الرعب والخوف وتحقيق المصالح الدنيئة على حساب اﻵخرين وغيرها كثير مما تعود آثارها الوخيمة على المجتمعات، ولكننا وللأسف البالغ نجد حتى الأوساط الثقافية تروج تلك اﻹشاعات وتحقق تلك اﻷهداف الدنيئة لذوي القلوب المريضة.
إنَّ نقل اﻷخبار ونشرها دون تيقن بصحتها يورث صاحبه الندم، وقد يوصله إلى ما لا يحمد عقباه، وذلك قانون قرآني واضح وصريح يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [سورة الحجرات : 6].
إنَّ المرء مطالب أولاً بألا يخوض في أخبار وأمور لا تعنيه تطبيقاً للحديث النبوي الذي قال عنه بعض العلماء بأنّه جمع الورع، وهو قوله _عليه الصلاة والسلام_: ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه).
وإن كان الخبر يعنيه ويهمه وكان صاحب علاقة ومسؤولية فيما وصل إليه من أخبار؛ فعليه أن يتخلق بالخلق النبوي والمنهج القرآني الذي جاء على لسان سيدنا سليمان عليه السلام، يقول تعالى : (قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) [سورة النمل : 27[.
لقد حذر القرآن الكريم المؤمنين من الخوض في أحاديث يظنونها أمراً هيناً، وقد يكون حسابها عند الله عظيماً؛ فالحديث عن ذمم الناس وأعراض اﻵخرين، والتفكه بأخبارهم في المجالس والمُنتديات دون أدلة وتثبت ليس باﻷمر الهين الذي يتصوره البعض، ولنا في حادثة اﻹفك التى حكاها القرآن الكريم دروس وفوائد عظيمة يجب على المؤمن أن يأخذ بها وهو يتعامل مع اﻷحداث واﻷخبار والروايات، وأولها إن كان المرء متهمًا بغير وجه حق، فليحتسب أجره على الله وليعلم أن في ذلك خيراً له وإن بدا ظاهرًا خلاف ذلك، كما أنَّ الحقيقة قد تنام ولكنها لا تموت إذ لا بد من أن يُظهرها الله يومًا، وثانيها أن يتجنَّب ما يقع فيه كثير من النَّاس وهو التلقي باﻷلسن دون التثبت والتروي واتهام الناس زورًا وبهتانًا، وليعلم يقيناً بأنَّ ذلك أمر عظيم لا هين، يقول تعالى: (وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَٰذَا سُبْحَانَكَ هَٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) [سورة النور : 16[.
وأخيرًا فإنّ حب إشاعة الفاحشة في المجتمعات المسلمة من خلال التفكه بالحديث عنها ونشرها وغيرها من تعابير هذا الحب الممقوت له عقابه الأليم في الدنيا واﻵخرة، يقول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [سورة النور : 19]
issa808@moe.om