علي بن مسعود المعشني
سيُشكِّل الانقلابُ أو التَّمردُ العسكريُّ الأخيرُ في تركيا مفصلاً تاريخيًا حادًا سيتعدى الأسماء والأحزاب لينال من مكونات هامة في الشعب التركي وسيطال مكتسبات كبرى للدولة التركية قديمها وحديثها. فما حدث بجميع تداعياته الحالية والمستقبلية ليس سوى عنوان وبوصلة لملامح تركيا القادمة في غضون سنوات المُستقبل المنظور والمقدرة بـ 25 عامًا.
الانتخابات الأخيرة والتي فشل فيها حزب العدالة والتنمية في تحقيق الأغلبية من الجولة الأولى رغم كل ضجيج المنجزات والتجييش والحشد والتعبئة أبرزت لكل مُتابع للشأن التركي عن كثب بأن البلاد تمر بمخاض عسير سيُفضي في النهاية إلى ولادة متعسرة تتطلب تدخلاً جراحياً أليماً.
وماحدث في ليلة الـ 15 من يوليو الجاري كان تلك الولادة العسيرة ومازالت الحالة تتطلب رصد الأعراض الجانبية الخطيرة المُصاحبة والمتوقعة سلفًا.
طالما وصل الخلاف والحل إلى البندقية والدم فهذا معناه أنَّ باب الخيارات الحمراء أصبح مشرعًا وأنَّ المواجهات بين أردوغان وغولن وأتباعهما ستتصاعد إلى مواجهات دموية مفتوحة تتأرجح بين حرب أهلية أو عمليات نوعية سرية من اغتيالات وتفجيرات وتهديد مصالح حيوية مُتبادلة، وفي كلا الحالتين فالخاسر الأكبر والوحيد هو الوطن والمواطن اللذين لا ناقة لهما ولا جمل في حروب النفوذ وصراع الكواليس وتجارة الدين.
من المؤسف أن نزف للمتأسلمين من طرفي الصراع التنبوء من اليوم بأنَّ المنتصر الأكبر والوحيد هو التيار العلماني وعودة العلمانية المجففة لكل آثار التيارات الإسلامية من مُختلف المذاهب الفكرية. ومن المؤسف أكثر أن نقول بأنَّ قدر الشعب التركي التاريخي هو التأرجح والقذف به ككرة المضرب بين علمانية لاتقر من الإسلام سوى شعائره وبين إسلام جريح من تحت أنقاض العلمانية وحصارها.
النَّاسُ بطبيعة الحال وبفطرتهم شركاء في الفائدة والربح وليسوا شركاء في الخسارة من هنا يمكن القطع بأنَّ غالبية الشعب التركي سيرددون شعار القرد الهندي: لا أرى، لا أسمع، لا أتكلم، في فصول ومراحل سنوات الجمر بين طرفي الصراع.
فهذا الموقف والشعور تسلحت به شعوب عديدة من قبل طلبًا للسلامة وترقبًا للفرج فتحولت إلى أغلبية صامتة أو حزب الكنبة أو خبزيست (طُلاب خبز ومعيشة فقط).
استدارة أردوغان العنيفة والقسرية وتحوله المفاجئ تجاه خصوم الأمس إيران وروسيا وسوريا والعراق طلبًا للعون والنجاة، وانقلابه على حلفائه التقليديين من غرب وعرب مع تمسكه بتل أبيب كبوابة ومفتاح للتأثير على الغرب سياسيًا واقتصاديًا، ليس تكتيكًا سياسيًا كعادته بل خيارًا إستراتيجيًا لمواجهة حرب داخلية مرتقبة طويلة المدى ومُتعددة الجبهات وعالية التكاليف وباهظة الأثمان.
الغريب أنَّ من سرَّبوا تفاصيل الانقلاب لأردوغان قُبيل وقوعه وسهلوا عليه السيطرة على الوضع سريعًا هم "خصومه" الروس والإيرانيون وفق مارشح من تقارير، فقد رأينا التجاوب الروسي السريع مع اعتذار أردوغان وتعليمات بوتين بسرعة عودة المصالح وتفعيل المعطل منها وكأنها وصفة عاجلة لخطة طوارئ وإنقاذ، كما كان الرئيس روحاني أوَّل المُهنئين لأردوغان بفشل الانقلاب .
حرص كل من روسيا وإيران على تُركيا نابع من كونهما دولتين راسختين تتعاطيان في شؤونهما الخارجية وفق إستراتيجيات عميقة ومدروسة بعناية فائقة ويعلمان حق العلم بأن مشكلتهما تنحصر في سياسات حزب العدالة والتنمية في المنطقة وأن الحزب سيزول ذات يوم وتركيا باقية. كما أنَّ روسيا وإيران مدركتان بأن أردوغان سيئ لهما ولكن فتح الله غولن أسوأ منه، يضاف إلى ذلك يقينهما بأنَّ أي انفلات أمني في تركيا سيُلحق بأمنيهما القوميين أضرارًا جسيمة حري بهما استباقها والوقاية منها.
يمكن القول بأنَّ أردوغان في المخطط الغربي لإستراتيجية ما سُمي بالربيع العربي هو الرجل المُناسب في الموقع المناسب من 2011 – 2015م، أما بعد المستجدات في الملف السوري ورمي الروس بكل ثقلهم فيه فإنَّ عقيدة فتح الله غولن هي الأمضى والأصلح لخدمة المُخطط الغربي في مرحلته (ب) .
حيث يُؤمن غولن بأهمية وأولوية إحياء التواصل والارتباط بالأقليات التركية في آسيا الوسطى والقوقاز وعلى حساب التَّقارب مع العرب والمُسلمين، وهو ما يخدم الغرب لزعزعة استقرار روسيا ومُحاصرتها بثورات ناعمة تُهدد أمنها القومي ونسيجها الاجتماعي ويحد من نفوذها وحيويتها في ملفات أخرى قائمة أو قادمة على الساحة الدولية، كما أنَّ غولن يُقسم لمريديه بأنّه لو كان طريق الجنَّة عبر طهران لما سلكه، وهو ما يطرب له تيار التطبيع مع العدو الصهيوني.
لذا فغولن مطلوب من المُحافظين الجدد في أمريكا والمنطقة والذين يؤمنون بأنّ تدمير إيران هو الحل الأوحد للتطبيع المريح مع الكيان الصهيوني ولتمرير مشروع الشرق الأوسط الجديد وتمكينه في المنطقة ويسعون كخطوة أولى بكل جهدهم لتعطيل وإلغاء الاتِّفاق النووي معها والعودة إلى مربع الخلاف والمواجهة الأول.
تطوَّع أردوغان بأن يكون رأس الحرب في المشروع التآمري على الأمة العربية والمُسمى بالربيع العربي مقابل صفقة تمكين التنظيم الدولي للأخوان من السلطة في عدد من الأقطار العربية وإغراق السوق التركية الرخيصة والجاذبة بالرساميل الصهيو غربية هو ما أفقده صوابه ومناعة بلده وأوصلهما بالنتيجة الحتمية إلى تفاصيل هذا اليوم الموعود دون قراءة واعية منه بصراع النفوذ السُني في المنطقة أو خطورة الورقة الطائفية أو خطر الإرهاب والتقسيم على بلاده أو هشاشة خاصرته الأمنية في الأناضول. فلو التزم أردوغان بإعمار بلده واحترم جواره وموروثه التاريخي لبقي كأسطورة إسلامية ووطنية يُحتذى بها لا تقل عن أثر الزعيم الماليزي محاضر محمد ونموذجه التنموي الشامل، فهو في موقع صلب يمكنه من قول (لا) للغرب تجاه قضايا مصيرية وكما قال جده عبد الحميد وهو في أوهن حالاته.
بعد أن ساهم بجدراة وتفانٍ في تدمير ليبيا (رغم كل الأفضلية والتسهيلات التي قدَّمها القذافي للشركات التركية في المشروعات العملاقة) وتحويلها من دولة إلى ميليشيات وأسس لدولة مصراتة والتي تضم العديد من الأسر الليبية ذات الأصول التُركية، حلم أردوغان في اليقظة والمنام بجعل كل من سوريا والعراق مستوطنات ترتع فيها العصابات الإرهابية المُسلحة، وبأن تُصبح حلب مصراتة سوريا والموصل مصراتة العراق لينام الكيان الصهيوني قرير العين وليحظى أردوغان بلقب الحليف الأول للغرب.
لم يكن أردوغان يتخيّل للحظة واحدة بأنَّ الأسد قد أعد العُدة لحرب إقليمية - إذا تطلب الأمر- لاستعادة كل شبرٍ في حلب وبدون الروس، رغم كل رسائل التهديد والوعيد المُعلنة والمُبطنة عبر الوفود البرلمانية الأوروبية أو الموفدين والأقنية الدبلوماسية بضرورة تخليه عن حلب كورقة انتصار لخصومه ومعارضيه.
ولايعلم أردوغان بأنَّ الأسد وحلفاءه من تيار المُقاومة على استعداد تام وجهوزية عالية لخوض الحرب دون هوادة أو توقف وبدون حلفائهم الروس والصينيين ومنذ بداية الأزمة ليقينهم بأنَّ تلكما القوتين لهما من المصالح الدولية المُعقدة والتي قد تجعلهما تنأيان بأنفسهما عن الصراع السوري في مفاصل بعينها، تمامًا وكما فعلت واشنطن وأحجمت عن توجيه الضربة العسكرية على سوريا حين تيقنت بأنَّ النتائج ستكون كارثية عليها وعلى حلفائها في المنطقة ومصالحها الحيوية.
قبل اللقاء: نجحت إستراتيجية الأسد "النار الهادئة" في ترويض أردوغان وتحويله من فئة الصقور إلى حمامة أودع من حمام مكة، وستنجح إستراتيجية القيصر بوتين في جعل فتح الله غولن شيء شبيه بالدواجن، ففي السياسة الكثير من المُحرمات التي تستحق التضحيات الجسيمة. وبالشكر تدوم النعم.