المواطنة العالميّة منهجية السلام الحديثة

 

 

حميد السعيدي

يتعايش العالم مرحلة سريعة التغير في مختلف المجالات، ساهمت في تحوله إلى قرية كونيّة صغيرة، نتيجة للتطور في عالم التقنية بصورة لم يشهدها من قبل، مما ساعد على تقريب المسافات بين قارات العالم نظريا، وساهمت في سرعة انتشار المعرفة وتبادل المعلومات بين مختلف مناطق العالم، فلم يعد للحدود السياسية والجغرافية وجود في ظل الحداثة العصرية التي كسرت كل الحواجز وسمحت بانتقال المعرفة بكافة أشكالها، وساعدت على التواصل التقني بين الأفراد، وأصبح من الصعوبة بمكان أن يعزل مجتمع ما نفسه عن هذا العالم أو يصبح في جهة أخرى مغايرة، فأصبحت القيم المواطنة كالتسامح والحوار الإيجابي وتقبل الآخر أحد سمات العصر الحديث، وبالرغم من أنّ الانتماء للوطن هو شيء طبيعي ويترسخ إيمانه لدى الفرد من مولده، وهو انتماء عميق في ذات الفرد يتجسد من خلال الأعمال الوطنية التي يقوم بها في سبيل وطنه، ولكن ما يفرضه العالم اليوم بحاجة إلى فكر جديد لابد من ترسخه لدى الأبناء فتعلم القراءة والكتابة والتربية الوطنية والرياضيات والهندسة ومختلف العلوم لا يكفي لإيجاد مواطنين صالحين، فالصلاح اليوم لا يقتصر على حدود الوطن وإنما لابد من انعكاسه على شخصية الفرد بصورة عامة من خلال تعامله مع هذا العالم، ففي ظل ما يحدث اليوم من مشاكل متعددة مرتبطة بالإرهاب الدولي والصراع بين الحضارات والاختلافات الدينية التي تبرز بصورة دموية، وما يرتبط بالمنظومة البيئة، أصبحنا بحاجة إلى التعليم من أجل السلام العالمي من خلال ترسيخ فكر المواطنة العالمية في أذهان المواطنين ليصبح الانتماء لهذا العالم كجزء من حياتهم، فلا يوجد جنس بشري مختار يختلف عن الأجناس البشرية على سطح الأرض؛ فالجميع متساوون في كل شيء، ولا توجد أرض مميزة دون غيرها، فتواجدنا على هذه المعمورة في أماكن مختلفة منها لا يعني ذلك إطلاقا أننا معفيون مما يحدث عليها، فكلنا نتحمل مسؤولية الحفاظ على الحياة على سطح الأرض بمختلف الأبعاد السياسية والاجتماعية والبيئية والصحية، الأمر الذي يتطلب تربية الأبناء على هذا الفكر الذي ينطلق من الإيمان بأهميّة العيش بسلام في هذا العالم، والسلام العالمي لا يقتصر فقط على إيقاف الصراعات وردم الاختلافات بين الدول والشعوب والأفراد، وإنّما يرتبط أيضًا بالحفاظ على سلامة العيش في بيئة آمنة وصحيّة.

ووفقا لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والتعليم والثقافة اليونسكو، فإنّ التربية على المواطنة العالمية مطلب أساسي "تهدف إلى تمكين المتعلمين من تأدية أدوار فعالة وحل التحديات العالمية وأن يصبحوا مساهمين سباقين في عالم أكثر سلمية وتسامح وأمنًا وشمولية للجميع" هذا النمط العالمي هو من يقرب بين الجميع ويسهم في معالجة العديد من القضايا التي تشغل فكر المجتمعات، فمن يتعمّق في النظر لما يحدث اليوم يجد أن معظم الصراعات تنطلق من الايمان بأن لا حدود ولا وطن ولا مكان يلائم عيشنا إلا حدود أرضنا التي ننتمي إليها، في حين أن النظرة الحديثة قائمة على الانتماء للعالم كجزء مهم من حياة الفرد، فالمواطنة العالمية هي "الإحساس بما يدور حولنا بالعالم دون النظر لأي حدود سياسية قد وضعها البشر" ولا ضير فيما نشاهده  لكل الاكتشافات والاختراعات في مختلف العلوم يستفيد منها العالم ككل بحيث يتحقق الفكر التكاملي بين الحضارات، ولولا ذلك لوجدنا شعوبا تعيش في القرون القديمة وأخرى تتقدمها بأجيال متطورة.

فتأثير المشكلات التي تحدث اليوم في مختلف المجالات لا تقتصر على المكان الذي يعيش فيه الإنسان، فالإرهاب الدولي، والصراعات المختلفة، والكوارث الطبيعية، والمجاعات، والأمراض المعدية وانتشارها، فتأثيرها يتعدى الحدود السياسيّة ليصبح العالم متأثرا بها، وهذا ما نلاحظه اليوم من أحداث تضرب في العالم ومتعلقة بالإرهاب الدولي، فتجد الكل متأثرا بها سوءا المواطنين في المنطقة التي حدث بها أو المسافرين لأغراض السياحة أو التعليم أو العلاج أو الذين يتابعون الأخبار عبر مصادره المختلفة يعانون من ذات التأثير، فالكل يشعر بمدى الخوف والرعب مما يحدث من فوضى نتيجة للأحداث الإرهابية، وهذا يعطي مؤشرًا على حتمية المواطنة العالمية التي تعطي للعالم كوطن واحد.

ومن أجل مواجهة كل هذه التحديات التي تواجهنا في المستقبل، يصبح إيجاد منهجية تساعد على التربية من أجل المواطنة العالمية مطلب أساسي لابد من تواجده في المؤسسات الاجتماعية والدينية والتربوية بحيث يصبح النشء قادرا على مواكبة كل ما يحدث في العالم، ويشعر بأهمية مشاركته في بناء عالم متقدم ومتطور وأنه عضو أساسي فيه، لذا نادت الكثير من دول العالم ومفكريها إلى ضرورة تبني هذه المنهجية المواطنية والعمل على ترسيخها بكل أبعادها كالمهارات المعرفية، والمهارات الاجتماعية والعاطفية، والمهارات السلوكية، بحيث تحقق التكاملية في بناء الأفراد.

أنّ المواطنة العالمية نمط الحياة الحديث ومنهجية السلام العالمي الذي أصبح العالم بحاجة إليه اليوم أكثر من أي وقت مضى، فحينما يتجاوز فكر الانتماء ليس للعالم فحسب، إنما إلى التركيز على تحمل المسؤولية تجاهه، حينها نصبح أكثر طمأنينة وسلاما، ومن أجل الوصول إلى هذه الغاية فنحن بحاجة إلى التعليم الذي يفتح عيون ومدارك الفرد إلى واقع العالم ككل، ويوقظ فيهم الروح العالميّة للحب والسلام، من أجل العيش في كنف الجميع بحيث تتحقق العدالة والسلامة وتحقق الحقوق للإنسان أين ما تواجد، فالتعليم الذي يسعى لتحقيق السلام العالمي وتقريب الحضارات والشعوب هو التعليم الأقرب إلى الثبات والبقاء، حيث تركز المواطنة العالمية على فكرة إعداد الفرد وتفاعله مع أفراده في عالم تسوده الاختلافات الفكريّة واللغوية والثقافية، بحيث يصبح مساهمًا بصورة فاعلة في تقدم وتطور العالم.

فالرغبة في بناء أفراد يتحملون المسؤولية العالمية ويقدرون قيمة وجود عالم آمن للعيش بكل أنماط حياته السياسية والأمنية والبيئة والصحيّة هي غاية لابد من ترسيخها لدى النشء، فتنشئتهم على بناء العلاقات الاجتماعية وتكوين الفكر المتواضع في السلوك، وانعكاسه في تعامله مع الآخرين من خلال الاحترام المتبادل بينهم، وتضمين الرغبة فيهم لتقديم العون والمساعدة للجميع دون استثناء، لبناء مجتمعات متطورة تدعو للخير والسلام من خلال تعاملاتها وأفكارها وأنظمتها الاجتماعية التي تحترم الجميع، وتقدر قيمة الحياة وأهميتها في المنظومة العالمية.

 

Hm.alsaidi2@gmail.com

 

 

الأكثر قراءة