أخلاقيَّات الشرفاء

 

 

حُمود الطوقي

عندما طرحنا في المقال السابقة في هذا العمود فكرة "أخلاقيَّات اللصوص"، لم يخطر في بالنا أن ردة الفعل ستكون بتلك الصورة، وأنَّ المقال سيتم تداوله عبر وسائل التواصل الاجتماعي بهذه الدرجة، وأن يكون من أكثر المقالات مقروئية على مستوى المتلقِّين؛ ذلك أنَّ السياق كان عموميًّا، ولكنه يتلمَّس الواقع من حيث منطقيّته، التي ربما ستصدم البعض ممن يمارسون تلك الأخلاقيات في مناخاتها المختلفة.

وفي السياق المضاد، وربما المُقارٓن، نجد أنَّ الصيغة التي يُمكن أن يتحسَّسها ذوو "أخلاقيَّات اللصوص"، يمكن أن تنبعث من جانب الشرفاء، وهو سلوك يحتمي أصحابه بمبدأ الرقابة الذاتية، والغوص في المبدأ، والتمثل به، والانسجام مع روح الإيجابية التي تجعله يُوقف ذاته أمام الرقابة الإلهية لما يقول ويفعل، وهي التي تقود إلى أريحية الرقابة الذاتية، في سياق مسؤول محدد الملامح والرؤى؛ فنحن في سياق الرقابة العامة للدولة، التي تطال كل ذي منصب ومسؤول، وكل مؤتمن على مُقدِّرات الجهات التي ينتمون وظيفيا إلى مدارها إدارة وتنظيمًا، وبالتالي نتائج تنعكس على الواقع.

وقد جاء في القرآن الكريم: "إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقنا منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا"، (الأحزاب:72).

هذا هو السياق القرآني لفكرة الأمانة، حملها الإنسان، ومارسها الإنسان، وكون الإنسان واعياً بأن المسؤولية أمانة، فإن انغماسه في تحقيق ملامحها وحقائقها ليس بالأمر الهين؛ لأنها تكليف وليست تشريفاً، هي اختبار ضخم أمام المسؤولٓيْنِ الأكبر والأصغر؛ لذلك فإنَّ قلة من حملة الأمانة الوظيفية قاموا بها خير قيام، فحادوا عن الطريق، فمن وجدوا في المسؤولية أمانة، وهرباً من ثقلها، لارتباطها بالسؤال والمساءلة، وعدم القدرة على مجابهة "العُصْبة"، رأوا أن التنحيٓ خير سبيل، وآمَن مسلك، وأصدق مسار، فلبُّوا نداء الذات الرقيبة على صاحبها، وخرجوا من عجينة المسؤولية بشعرة الراحة.

رُبَّما إنْ قامت جهات الرقابة -والتي ترصد الفارق بين أخلاقيات الشرفاء من ناحية، وأخلاقيات اللصوص من ناحية ثانية- بوضع ميزان مفاضلة، وتقييم أداء، وتفعيل دور فائدة إبراء الذمة المالية قبل مغادرة كرسي المسؤولية، من خلال تطبيق المرسوم السلطاني "من أين لك هذا؟"، لانكشف غطاء الخارجين من بوابة المسؤولية، الذين اعتادوا إغلاق مجس العبور القانوني، ليكونوا أحرارًا من السؤال، وبعيدين عن ملاحقة العيون لأرقام الأرصدة البنكية، أو تعددية قنوات الدخل العالية الريع؛ وبالتالي لن يعرف أحد "كم كان عنده قبل أن يكون مسؤولاً"، و"كم صار لديه بعد إخلاء طرف المسؤولية"، وما أقلهم الذين دخلوا وخرجوا بدشاديشهم التي عليهم.

الغريب.. أنَّ شركات بعينها -طوال سنوات طويلة- ظلَّت هي مرسى المناقصات، تدور في فلك "المُحدَّدين" سلفاً، لهم يذهب الكثير، وحتى الـ10% بالكاد تسد رمق المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، لكأن ذلك بمثابة ميراث ينتقل رصيده من مناقصة إلى أخرى، مُخْفياً المسؤول الإفصاح والشفافية تحت غيمة ذات ضبابية مركبة، تمنع التنافس وتقصل النمو وتكرس النافذين؛ فالمشاريع مُسْتٓحْوٓذ عليها في قبضة شركات معلومة الإسناد، وظاهرة لكل ذي لُب وعين، وهذا ليس من الأمانة، بل مُغايِرُها تماماً.

نشعر أنَّ الأمانة تقتضي إشراكَ المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في إسناد المناقصات؛ لأنها مفتاح اختبار للتنافسية بين أعداد هائلة من المؤسسات يقارب عددها الـ20 ألفاً، وهي كم كبير يمكنه أن يدعم البناء التنموي عبر التنافسية في الجودة التنفيذية، والسرعة في الأداء، والمشاركة الفعلية في بناء الوطن.

المسؤولون الشرفاء سيميلون إلى كفة دعم هؤلاء، ليس من باب الصدقة، بل من بوابة تحمل المسؤولية، وتفكيك منظومة "العُصبة الواحدة" التي تجد في التمدُّدين الأفقي والعمودي ثراء وأعداد مؤسسات متزايدة خير غنيمة... إنَّ المسؤولية أمانة!