علاقتنا بالقرآن الكريم (5)

 

 

عيسى الرَّواحي

استعرضتُ في المقال السابق أشدَّ أنواع هجر القرآن الكريم؛ وهو: هجر تعطيل أحكامه وعدم اتباعه، كما هي حال أغلب المسلمين اليوم.

ومن كانت هذه حاله، فالقرآن الكريم حُجَّة عليه لا له مهما قرأه وحفظه واستمع له، أضف إلى ذلك أنَّه قد تنطبقُ عليه مقولة أنس بن مالك -رضي الله عنه: "رُبَّ تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه"؛ بحيث يتلو القرآن والقرآن يلعنه كونه ينطبق عليه حُكم اللعن؛ فقد يقرأ قوله تعالى: "فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ" (آل عمران:61)، وهو في حياته يكذب؛ يكذب في حديثه ويكذب في مواعيده، ويكذب في أفعاله؛ فيستوجب بذلك لعنة الله عليه كما ورد في القرآن الكريم، وقد يقرأ قوله تعالى: "وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًاأُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ" (هود:18)، وهو حياته كثير الظلم، ظالم لأهله، ظالم في مجتمعه، ظالم في مقر عمله، ظالم في تعامله مع الآخرين، فيستوجب بذلك لعنة الله عليه كما ورد في القرآن الكريم.

... إنَّ أيَّ سلوك مُخالف أو خُلق سيئ أو عمل غير مقبول أو تصرُّف مرفوض أو معاملة جائرة يرتكبها أصحابها؛ فذاك يقينٌ جازمٌ بأنهم ارتكبوا تلك الأعمال بمخالفة هدي القرآن الكريم وعدم الامتثال لأحكامه؛ إذ القرآن الكريم شرع الله المبين وصراطه المستقيم الذي يهدي الناس إلى سبل الرشاد وبث الأمن والاطمئنان، وتحقيق السعادة ونشر العدالة والاستقرار، كما أنه منهج يحوي تفاصيل الحياة كلها بكلياتها وجزئياتها؛ يقول الله تعالى: "وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" (اﻷعراف:52)، ويقول تعالى: "الم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ" (لقمان:1-3)، ويقول تعالى: "حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ" (فصلت:1-4)، ويقول تعالى: "حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ" (الزخرف:1-5).

إنَّ قارئ القرآن الكريم وهو يتلو آيات الله البينات بما تحمله من قصص العبر والتفكر، وما تحمله من أوامر ونواهٍ، لا بُدَّ أن تكون له في كل آية وقفة خشوع وتدبر، وقفة محاسبة واسترجاع؛ فينظر واقعه مع الآية الكريمة في حياته، أيمتثل مع الأمر، ويزدجر مع النهي، ويتعظ مع القصص، ويتفكر مع آيات القدرة والجلال، أم غير ذلك؟

والقرآن الكريم -بلا ريب- يُعطي صاحبه صورته الحقيقية، ويبيِّن له درجة إيمانه ومدى قربه من الله تعالى؛ يقول الله تعالى: "لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ" (اﻷنبياء:10).

فالمرءُ يعرف ذكره وحقيقته مع الآيات البينات؛ فيُحدِّد موقعه منها؛ فعلى سبيل المثال: أين موقعه وذكره من قوله تعالى: "وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ" (البقرة:42-45). ومن قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" (الحجرات:11)، وأين موقعه من قول الله تعالى: "يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ" (لقمان:17-19).

فالمرءُ -بلا ريب- يعرفُ حقيقته وواقعه مع كل آية يتلوها، ومدى اتباعه لها، وفي هذا الشأن رُوِي أنَّ الأحنف بن قيس كان جالسًا يومًا، فجال في خاطره قوله تعالى: "لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ". فقال: عليَّ بالمصحف لألتمس ذكري حتى أعلم مَنْ أنا؟ ومن أشبه؟ فمرَّ بقوم: "كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ"، ومرَّ بقومٍ "الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ"، ومرَّ بقوم "وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ"، ومرَّ بقوم "وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ"، فقال تواضُعاً منه: اللهم لست أعرف نفسي في هؤلاء، ثم أخذ يقرأ فمر بقوم "إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ"، ومرَّ بقوم يقال لهم: "مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ"، فقال: اللهم إني أبرأ إليك من هؤلاء؛ حتى وقع على قوله تعالى: "وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ"، فقال: اللهم أنا من هؤلاء... هذا وللحديث بقية بإذن الله تعالى.

issa808@moe.om