النزاهة.. وطن

هلال الزَّيدي

بعد مغيب الشَّفق مؤذنا بحلول العِشاء الذي يقود إلى تقليب صفحات ذلك النهار الطويل في كل شيء، بدأ الجسد يتراخى رويدا رويدا، باحثا عن نُزهة الحرير وعلو السرير من أجل أن يُطلق لعقله الباطني العنان ليحلم بلقاء تلك الجميلة التي بحث عنها منذ بداية فهمه للكتاب المنظور بعفة وطهارة الطفولة وفي مرحلة الفتوة وعنفوان الشباب، ومع اشتداد ظُلمة الليل وتسلل العَتَمة من بين تلك الشقوق والتصدعات اليومية بدأت الأجفان ترسل إشاراتها في أنحاء الجسد للاستجابة لمؤشر النعاس الذي سيطوق ذلك الشيء المسجى على قارعة الواقع ليسمح للوسن (وهو ثقل النُعاس) بأن يجر بعده الترنيق (وهو مخالطة النعاس العين) ثم الكرى والغمض (وهو أن يكون الإنسان بين النوم واليقظة) ليدخل الكيان المسمى بالإنسان إلى والهجوع والهيوع (وهي أن يغرق الإنسان في النوم)، إلا أنه وبكثرة تفكيره في حبيبته التي أحبها ورسمها في كراسة الرسم بمختلف الأشكال والأحجام بعدما نبتت أسنانه من بعد السقوط (مثغر) لم يستطع أن يسجي جسده في تابوت الرقاد الطويل لأنه تذكر تعنيف أستاذ الرسم (التربية الفنية) وتمزيق كراسته لأنه خرج عن الموضوع الذي طُلب منه أن يرسمه، وهو عبارة عن (قلعة) إلا أن أنامله قادته بأن يرسم عشيقته التي أراد أن يُتقن رسمها قبل كل شيء لتقوده إلى بناء القلعة الحصينة وفتح أبوابها، لتسكنها وهي مطمئنة.. فبينما يتذكر ويفكر كيف يقرر ليزرع بذرة "النزاهة" -التي أطلق عليها اسم الحب والحياة والعشق الأبدي لتنمو وتتفجر عطاءاتها في كل مكان- كان قد بدأ وقت السُّحَرة وهو آخر الليل قُبَيل الغَلَس فأحس بشيء ما يتدحرج على خده المعفر بالشوق والحنين إلى حبيبته.. فبدون أن يتحسس تلك الكرات المتدحرجة عرف بأنها دموع الوجد والشوق والغيرة المتكومة في امتداد قامته من هامته حتى أُخمص قدميه، وهنا كانت الإشارة ليحلم حلم اليقظة لأن رؤيا النوم تأبي أن تتشكل لهول ما عايش ورأى وسمع.. لذلك نظر إلى سقف غرفته المظلم وألقى وابلًا من الاستفهامات في نفسه بحس لا يسمعه من كان يقاسمه لذة النوم كي لا يزعج من حوله ويكتشف مُخططه بأن لديه حبيبة.

فبينما تتناثر تلك الأسئلة زخَّات متتالية توقَّف مُحرِّك الدينامو العقلي لديه فداهمته سِنةٌ من النوم وكان ذلك آخر الليل قُبيل البلجة أو ما يسمى بـ"الغَلَس"، إلا أنَّ تلك السِنة لم تدم طويلا حيث جلجلة المنبة قطعت كل شيء، مؤذنة بيوم جديد وموعد جديد مع حبيبته التي أفاق ولم يجدها، فبدأ يسأل عنها ويلح في السؤال فتأكد بأنه حلم سيبحث عنه في واقع اليوم الجديد، عله يتحقق شيء منه منذ دخل وقت التنوير (وهو بعد صلاة الفجر)، فبدأ الاستعداد للبحث عنها في عالم يموج بالمتناقضات وارتفاع سقف التوقعات، والكيل بمكاييل المصلحة والتفسير من منظور شخصي، ومبادئ "أنا ومن بعدي الطوفان" وأشياء كثيرة طالحة في نظر البعض وصالحة وذات أحقية عند الآخرين.

تلك الاستفهامات كانت تدور حول الحبيبة التي هجرها الفعل وأصبحت قولا وشعارا خارج نطاق التغطية البشرية: كيف أُحرر "النزاهة" التي شُمِّعت بالشمع الأحمر وأُدخلت في أدراج المكاتب ليتكدس عليها الغبار؟ كيف أبني أسرة تضع نزاهة التعامل والخُلق في صادرها وواردها؟ كيف أستطيع أن أُسكن النزاهة أنفاسي؟ هل حقا أنا لستُ نزيها؟ وهل يمكن أن تكون النزاهة وطنا؟ وكيف يمكن أن يتعدد العشاق لحبيبة واحدة؟ وكيف نستطيع أن نبني جيلا قادما تكون أسماؤه بين نزيه ونزيهة؟ وهل فعلا يوجد بيننا أناس لا يُنزِّهون أنفسهم عن الفساد في شؤون العامة قبل الخاصة؟ وهل ثمة فارق بين النزاهة والنُزهة، بحكم أن الكل يذهب في هذا الصيف مهمة عمل أو دورة ليتنزه على حساب النزاهة؟!

بدأ مسلسل البحث والتحري والتقصي لبلوغ سدنة المعرفة وشد الهمم نحو إيجاد فكر يرتوي من نبع النزاهة المستمدة من حضارة لا تأبى بالفُتات المتطاير، وإنما تسير وفق ركيزة متعددة الأقطاب؛ فالبحث في أمَّات الكتب عن النزاهة المنشودة في حضن الوطن الممتد من كمزار شمالا حتى حاسك جنوبا لا يحتاج إلى دليل لأن الطريق يدل على المسير الذي كوَّن لُحمة هذا الوطن منذ انهيار سد مأرب بحسب ما أجمعت عليه المصادر التاريخية. وعليه؛ فمن السهل جدًّا أن نحيي منظومة النزاهة كوننا ننتمي لهذا الإرث التاريخي الذي لم ولن يقبل القسمة على اثنين؛ لأنه وطن واحد، كما أننا كُلفنا بالأمانة التي تسلمنا شعلتها من آبائنا وأجدادنا شاملة جامعة لصنوف التكامل والتكافل بعيدة عن استغلال أو فساد أو كساد، لذلك حملناها حتى تجدها الأجيال متكاملة لا متناقصة، ومتوازية لا متناقضة، فهم يستمدون طاقة حب الوطن منا، كما أنهم سوف يُنزهون أنفسهم عن كل ما يُدنس صفوها؛ فالحذر الحذر من "لعنة" الأجيال القادمة لأننا بذرنا ونهبنا وقدمنا مصالحنا الذاتية حتى ذهبت ثروات البلاد إلى جرف هار لينهار بها إلى مصاف الدول الأكثر فسادا.

... إنَّ النزاهة التي نحتاجها في زمن الأزمات هي المنقذ الوحيد والتضحية الأساسية التي على كل فرد في المجتمع أن يتقلدها؛ فالمواطنة الحقيقية أن تكون نزيها في كل شيء حولك، وأن لا تأخذ ما لا حق لك فيه، كما أنها شرط أساسي أن أنال شرف المواطن وأكون وطنيا، فليس الانتماء كلاما عابرا أو نثرا يُثرثر به أو نظمَ شعر مختلَ القافية ويخالف الواقع ومجرياته، فعلينا أن نكتب الحروف بحسب رسمها ومعانيها فالضاد تكتب (ض) والظاء (ظ) ولا يمكن أن نساوي فيما بينهما، لذلك اختيار الأفراد الأمناء مهم جدا، لأن الحفاظ على مكتسبات الوطن مرهون بمن يتسيدون سدة اتخاذ القرار، فإن لم يكونوا أهلا لها فعليهم المغادرة لمن يتخلق بالنزاهة ويضعها في كرسيه قبل وضع نفسه عليه.

فالنزاهة هي البُعد عن السوء وترك الشبهات، من أجل تحقيق العدالة؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر من الضروري أن يتحلى القضاء بالنزاهة وسمو الأخلاق؛ وذلك حتى لا يتحيز في إصدار الأحكام، لأن شروط اكتمال صفة المسلم هي النزاهة التي تقودنا إلى منبع الوطنية، كما أنَّها -أي: النزاهة- أحد شروط الاستقامة؛ فكلما كان عملك مستقيما من حيث العطاء والإنتاجية استطعت تحقيق الأهداف التي تسمو بالوطن والمواطن إلى سُلم الإنسانية التي تعتبر صانعة للحضارة وموجهة للفكر الرشيد، وتنزيه النفس عن إيقاع الأذى بالآخرين لا يكون فقط سبا أو شتما، وإنما بالتجني على مكتسباتهم وأموالهم والتأخير في قضاء حاجياتهم بالتسويف والتعقيد، وسلبهم حقوقهم التي كفلتها لهم الشرائع، و"الرشوة" و"الواسطة" صفات وأسماء مقيتة لأفعال يتَّبعها الكثيرون ممن وصلوا إلى موضع المسؤولية، وقد شاعت وأصبحت ظاهرة خطيرة؛ مما أدى إلى ضعف الإنتاجية، وجمود في البناء الفكري الذي يبني الوطن.

... إنَّ تهجير الخبرة وطمرها أحد أسباب التخلف التي قادت حضارات وشعوبا إلى حافة الإفلاس، ليس اقتصاديا وإنما أخلاقيا، فأصبحت متناحرة لا تعرف إلا لغة القوة لأنها حادت عن جادّة الصواب، وتكاثرت المصالح الذاتية على القصعة حتى نضبت جراء سوء الاستخدام والاستغلال الذاتي، ولعل غلو البشر في التعامل وحب الذات (النرجسية)، خاصة في مواقع عملهم أنتج جيلا لا يفكر ولا ينتج وإنما فقط مستهلك منفذ للأوامر التي تصدر من قبل أناس تعجرفوا وسنّوا لأنفسهم شرائع لم تكن موجوده، فاعتقدوا بأن الأرحام لم ولن تغيض بأمثالهم، وعلى قول المثل: "أخذوا زمانهم وزمان غيرهم"، غير آبهين بحاجة الأجيال إلى النزاهة.

نحن بحاجة إلى إعادة صناعة النزاهة في أجيال لا تزال تتكون؛ لأن "الكبار" تحرَّروا من النزاهة وقادوا المجتمعات إلى ما هو عليه من تناقض؛ فالاهتمام بأجيالنا من حيث ترسيخ قيم النزاهة لديهم واجب وطني يبدأ من الأسرة والمدرسة والمسجد ويصل إلى منصات التقنية الحديثة التي يجب أن تُبنى على نزاهة في كل تفاصيلها. ومن هنا، أرى أن تصمم برامج ومناهج لغرس فعل النزاهة من أجل هذا الوطن.

النزاهة حبيبة وعشيقة جميلة المنطق بشوشة المحيا؛ لذلك علينا أن نخطب ودها ونفعِّل الخدمة فيها؛ لأنَّ قياسها يتمثَّل في فعلك تجاه نفسك وأسرتك وجارك وعملك ومسؤوليتك ووطنك، وكلما كان تعاملك مع هذه المعطيات واضحا لا لبس فيه استطعت أن تصل إلى الحبيبة، فكن صادقا معها؛ لأنَّ النزاهة وطن، فلا وطن من لا يتوشح بالنزاهة.

------------------------------

همسة:

"ازرع النزاهة بذرة، واسقها من واقعك بفعلك، لتجني ثمارها أينما حللت؛ فارسمها حبيبة في قلعة حصينة؛ لأنَّ النزاهة وطن".

* كاتب وإعلامي

[email protected]