"يا ليلة العيد"

 

عائشة البلوشية

وأنا في العراقي -"دار الراقي" كما يحلو للجميع تسميتها- وصلتني عبر "الواتساب" رسالة من الشيخ الوالد -رزقني الله حُسن بره- وكانت عبارة عن مقطع صوتي ﻷغنية "يا ليلة العيد" بذلك الصوت الرائع الشجي للراحلة أم كلثوم، وهذه الأغنية من فيلم "دنانير" بمقام "البياتي" والتي لحَّنها رياض السنباطي، غنَّتها كوكب الشرق في العام 1939م، من أجمل الألحان التي ترتبط بليلة العيد وما يسبقها من استعدادات، لبثِّ الحبور في نفوس الأطفال والكبار. وفي ثلاثينيات القرن الماضي، كانت مصر تعيش التقدم والتطور وتفوق أكبر مدن العالم جمالا ونظافة ونظاما وتطورا، كانت عُمان حينها تفتقد إلى أبسط معاني الحضارة بسبب عدم اكتشاف النفط في تلك الأثناء، ومن عجائب القدر بالنسبة لي في تلك اللحظة أن تصلني تلك الرسالة من والدي، وبعدها بدقائق فقط تنبري جدتي الغالية -أطال الله في عمرها- تروي لنا عن أحد صباحات العيد من طفولتها في ذلك العقد من الزمان، عندما حلَّ صباح أحد الأعياد عليهم والحزن يخيم على الجميع بسبب فقد إحدى الفتيات من بينهن، حيث كان قطاع الطرق يرصدون على مشارف القرى وبالقرب من المراعي ويقومون بخطف الفتيات الصغيرات وبيعهن في الأسواق الداخلية، ثم يتم بيعها حتى تصل إلى إحدى دول الجوار وربما عبرت البحار، ولم يأت عنها أي خبر؛ لذلك كانت القرية كلها تنتظر أي خبر يأتي حاملا معه ما يفيد بأي شيء عن "بنت راعي الغروب" التي كانت في المراعي المحيطة هي وصويحباتها، فهجم عليهم قطاع الطرق وقاموا بخطفها، وﻷن العاقبة في كثير من الأحيان كانت الاختفاء في غياهب النسيان، كانت سُحب الوجوم والحزن تُظلِّل جميع من خرج من الرجال والنسوة والأطفال إلى "المركاض"، وما هي إلا لحظات ولاحت النوق في الأفق، ونقع التفق بالبشرى بأن الفرسان الذين هبوا للحاق باللصوص قد عادوا بابنة "راعي الغروب"، حيث وجدوها في "عرصة" البيع في سوق نزوى؛ فقاموا بدفع مبلغ لا بأس به لاستردادها؛ ﻷنَّ مختطفيها قاموا ببيعها، وتم تداول بيعها حتى وصلت للمشتري الأخير الذي عرضها في سوق نزوى، وﻷن استردادها بعد الخطف يُعدُّ أمرا أشبه بالخيال، كانت الفرحة برؤيتها فوق الناقة عظيمة جدا، وهبَّ الجميع راكضين للبس الجديد، وكان ثوب العيد لجدتي عبارة عن "مقصورة"، وهو ثوب تم صبغه بمادة "النيل" السوداء، فلبست الفتيات ثم قمن بدهن الورس والدهان (خلطة من الزعفران المطحون وقليل من خشب الصندل ممزوج بماء الورد) على جباههن وأصداغهن، وصببن الحل (الزيت المخلوط بالآس المطحون) على رؤوسهن، وخرجن راكضات بين البيوت للحصول على قشاطة أو أي شيء يبعث الفرح في قلوبهن، وبعدها توجهن إلى "القلة/العيود"، وهو مكان الاحتفال بالعيد.

وانبرت جدَّتي تنبش في تلك الذاكرة الزاخرة بالصور المعتقة بالجمال لتقول إن بنت راعي الغروب كانت ذات جمال أخاذ، وهي أكبر منهن سنا، لذلك كان من يشتريها يدفع فيها مبلغا محترما ﻷنه سيتخذها زوجة! ثم عدَّدتْ لي بعض الأسماء لفتيات تم خطفهن وانقطعت أخبارهن، وعُدن باحثات عن الأهل والأقارب بعد عشرين أو ثلاثين عاما مع أبنائهن وأزواجهن وهن في أحسن حال، وهناك اللاتي لم يعدن ولم يعرف أين آل بهن المصير، فتأسَّفت على إحداهن والتي كانت من صويحباتها، وتنهَّدتْ بعُمق حامدة المولى على نعمة الحال اليوم، وأنه ليس هناك من قُطَّاع للطرق يحرمون الأهل من بناتهم، ويتاجرون بالصغيرات اللائي لا حول لهن ولا قوة.

بَوْن شاسع بين الحال في بلدين عربيين كمصر وعُمان في تلك الحقبة، وشتان هي الحال بين الطريق البري الذي يربط بين محافظة مسقط ومحافظة الظاهرة مرورا بمحافظة الداخلية في نهاية السبعينيات وعام 2016م، ففي رحلة الذهاب إلى ولاية عبري يوم الثامن والعشرين من شهر رمضان الكريم 1437 كان الطريق طَوْع المركبة التي تُقلنا، ولكن الجزء الجميل من ذلك المسار هو طريق جبرين-عبري، حيث يشقُّ الأسفلت ذلك الامتداد المفتوح تطل عليه الجبال من جهة واحدة تارة، ويخترق صلابتها تارة أخرى، وترى الإنارة وكأنك في أحد الأفلام العالمية التي تصور الصحراء الحالكة السواد في ليلة محاقية، ويتوسَّطها فنر يكسر تلك الوحشة، فتسري مشاعر وجل روحانية في قلبك لروعة ذلك المشهد، خصوصا تلك المنطقة الواقعة بين "عقبة مريخ" وحتى "كبارة"؛ فالله وحده يعلم عددَ المرات التي سلكت فيها هذا المسار، لكنني في تلك الليلة التفتُ إلى زوجي مُحدِّثة إيَّاه بمدى إحساسي بمعنى نعمة الأمان والاستقرار ونحن نشق الهواء عابرين تلك المنطقة تحديدا، فالحمد لولي الحمد والنعماء.

وجاء يوم العيد وتوافد الأطفال للحصول على العيديات، وما أبهى تلك الوجوه البريئة وهي تدلفُ من الباب باحثة عن الشخص المسؤول عن توزيع العيدية، وكنت أنظر إليهم وهم يتوجَّهون إلي مباشرة، فأصافحهم وأحييهم وأسألهم عن أسمائهم ثم يتسلمون العيدية غير آبهين بنوعية الورقة المالية إن كانت قديمة أو جديدة، ﻷن عقولهم الصغيرة تعي أن قيمتها المالية لا تتأثر بذلك، وأشير إليهم بالذهاب لتحية جدتي على كرسيها وتحيتها وتعريفها بأنفسهم، ويفعلون ذلك بكل حبور.

وتظلُّ للعيد فرحة مهما انغمستْ اللحظات في الحزن الدفين، ويظل ليوم العيد طعم عذب يستسيغه المريض والصحيح، والمتعب والقوي، والمثقل بالهم وغير الآبه، والفقير والغني، ففيه تتماهى كل الفروق والاختلافات، وعليه يجب أن يكون هذا اليوم يوما ننتهي فيه من جميع الخلافات، ونفتح صفحات بيضاء مع خالقنا وقلوبنا ونسأله أن يغفر لنا ويتجاوز عنا سيئ ما فات، وأن نقبل على الحياة برضا وإيجابية، وأن نتخفَّف من حمول النقد الهدام، الذي يسحبنا إلى قاع السواد والحقد، وأن نبحث عن الفرص والأبواب المفتوحة أمامنا؛ فالله تعالى أعز وأجل من أن يضعنا في ابتلاء ويغلق أمامنا جميع الأبواب.

----------------------------------

توقيع:

"يا ليلة العيد آنستينا.. وجدِّدتي الأمل فينا

هلالك هل لعنينا... فرحنا له وغينينا

وقلنا السعد حيجينا... على قدومك يا ليلة العيد".