معاوية الرواحي
عندما يتعلق الأمر بالوطن تنزلُ الأقلامُ وتَحْبَرُّ الصحف. وكل صاحب قلمٍ يقفُ موقفا هائلا أمام فكرة سامية مثل المسؤولية الوطنية، وللأقلام مثل أصحابها شؤون، شيمتها الاختلاف، وصفتها التباين، وسمتها عدم الاتفاق على محورٍ واحد، هذه طبيعة بشرية من المحالِ أن تخرجَ عن الطبعِ مهما حاولَ التطبّع.
ولا بد في هذا السياق أن نضع القليل من النقاط على الكثير من الحروف، فالوطنُ يمتلك صفة الديمومة، ويجمع كل شيء، الماضي والحاضر والقادم، يجمع الأحياء والأموات، ويجمع التاريخ والمستقبل، كذلكَ ومن صفات أي وطن وجود دولة تعبر عن كيانه ووجوده وتكتسب قوتها منه، كما يستمد الوطن أسباب بقائه منها، وهذه الدولة من ضمن أجزائها حكومة. للدولة صفة السيرورة الآنية، أي أنها تسير في خطٍّ زمنيٍّ متعلق بمن هو على قيد الحياة، وسيرا في نفس السياق تأتي النقاط الأخيرة لنضعها على كلمة [الحكومة] فالحكومة يد الحكمِ الأولى، ولكن الحكومة رغم علاقتها الوطيدة بالدولة، وعلاقة الدولة الوطيدة بالوطن، تخرج من إطار الديمومة، فالذي اليوم مثلا في مقعد الوزارة غداً يكون متقاعدا بسبب العمر أو بسبب كفاءة أخرى تحلُّ محلّه، وكذلك الأمر بمن هو الآن خارج الحكومة سيكون غدا وزيرا أو وكيلا، إنّها طبائع الأشياء، وطبائع الأشياء عندما توصف بالكلمات يجب أن توضع في إطارها الدقيق، وهُنا تأتي بوصلة الكتابة الوطنية [الصادقة] التي تهدف إلى قول شيء خيّر ومفيدٍ وبانٍ في حقّ الوطن.
كما قلتُ أعلاه، عندما يتعلق الأمر بالوطن، تنزلُ الأقلامُ وتحبرُّ الصحف، وعندما نتحدث عن وطننا عُمان في الظرف الحاليّ، نكتشف أن نقاطا طائرة كثيرة في الهواء لم تعد توضع في أماكنها، فعلى صعيد الكتابة الوطنية نعيش أزمة حقيقة في التسميات والصفات، هذه الأزمة هي التي تغير كلمة [أزمة] إلى كارثة، وتغير كلمة كارثة إلى [حدث عادي] وكلا الأمرين خاطئ بشكل تام وجذري، حال الكاتب أن يضع القليل من النقاط على الكثير من الكلمات، وحال الحكومة أن الكثير من النقاط على الكثير من الكلمات، هذا يملك النقطة وهذا يمتلك الكلمة، وهذه من صفات التوازن المدني اللازمة في أي دولةٍ في العالم، مهما كان شكلها أو نوعها.
عندما نأتي إلى [الظرف] الذي تعيشه عمان الآن، أقف وأتأمل كل شيء خارج هذه الظروف التي تنال الاهتمام الأقصى من قبل كل الأطراف، الشعبي، والحكوميّ. على الصعيد الشعبيّ هناك أشياء تقال، وعلى صعيد المجتمع هناك أشياء مختلفة تُقال، المجتمع جزء من الشعب، ولكن ليس كل فرد من الشعب بالضرورة يقع في مجتمعٍ واحدٍ، التباين سنّة كونية حتمية، ولذلك خلقت الكلمة فارقها بين مجتمع وبين شعب.
إن الفضيلة لم تكن ذاتَ يوم صفة مربحة لأي شعب أو مجتمع. الفضيلة تأتي مع ضرائب ليست بالقليلة. وعندما نأتي لنتأمل عُمان [الوطن] وعُمان الدولة، سنجدُ أننا في دولة فضيلة من الطراز الأول، لقد وهب الله عمانَ حاكماً لن يتكرر عبر العصور، وفي زمن الجنون الدوليّ كان سلطان عُمان العاقل في منطقة تموج بالدماء والحروب، وهنا يأتي ما أقصده بقوّة الفضيلة، لقد نأت عُمان بنفسها وأصرت إصرارا لا هوادة فيه ألا تكون طرفا في معادلةٍ تلوّث الرصاصَ العُمانيّ بدماء الأبرياء، هنا يأتي موقف الفضيلة العُماني واضحا ومستمرا منذ أربعين عاما، والسلام من فضائل البشر، وفضائل الدول، ولهذه الفضيلة مكاسب كبيرة للغاية أهمها [الثقة] التي يوصفُ بها الوطن العُماني، وهذه ثقة يعض عليها بالنواجذ ويمسك بها حتى تتقطع الأصابع، تنسحب الثقة التي ينالها الوطن العُماني إلى الثقة التي تنالها الدولة العُمانية، فالدولة العُمانية بقيادة السلطان قابوس صنعت لنفسها مكانة دولة مدهشة أثارت ذهول الدول الأخرى المتبجحة بالمال والعد والعديد، كل هذا يدور حول محور إنسان واحد هو السلطان نفسه، وكما قلت من قبل إن الهبة الإلهية التي جعلت حاكما عاقلا في زمن الجنون انسحبت آثارها على الشعب نفسه، لذلك تجد أن قوّة الفضيلة العُمانية ما زالت تمارس سيرورتها الوجودية في لغة العُماني، وفي تصرفاته وفي تعامله مع القريب والغريب.
ضرائب الفضيلة تحتاج إلى تضحيات، وهذا فعلا ما حدث، فبعد توتر الوضع الإقليمي الخليجي وجد الوطن العُماني نفسه مضطرا إلى تغيير بعض الخطط بناء على الأرقام التي [تلخبطت] كثيرا، التخبط الذي يحدث في المنطقة العربية ساهم بشكل كبير في صناعة [الظروف] التي يعيشها الوطن العُماني حاليا، ولكن قبل أن ندخل إلى هذه الظروف، وإلى الحلول المنطقية لها، يجب أن نسأل أنفسنا، هل هي ظروف؟ أم هي أزمة؟ أم هي كارثة؟
هنا يأتي دور الكتابة لتضع القليل من النقاط على الكلمات الكثيرة المتناثرة، ويمكننا أن نؤكد بشكل جازم أن انحراف بوصلة الكتابة بسبب قوة الجذب المغناطيسية للهلع والخوف جعل الكلمات تصف معنى آخر. تمرُّ عُمان الآن بسلسلة إجراءات تقشفيّة، والجميع يعرفُ أن هذه الإجراءات موجعة ومؤلمة وتوتّر الوضع الداخلي اقتصاديا بشكل كبير، واجتماعيا بشكل أقل. لا أشير ولا أقول ولا أؤيد بأي شكل من الأشكال المساس بمستوى دخل المواطن المعيشي، ليس هذا ما أريد قولَه.
ما أريد قولَه خارج هذه الظروف كليّا، إن مصدر القلق العُماني الأولّ معروف ولا يحتاج إلى فهم كبير، الكل قلق على تغير ظروف الدخل بعد رفع الدعم عن البترول مثلا، أو كما سيأتي كما يبدو الكهرباء والخدمات الأخرى. القضية ليست في الدعم البترولي، ولكن القضية في [دخل الفرد] وهنا يختلف الكلام جذريا، يمكن لرفع الدعم أن يلعب دورا في رفع دخل الفرد لو تمت معالجة المعادلة المالية للدولة العُماني ليتم مناقلة ما ذهب للدعم ليذهب إلى الفرد مباشرة عبر علاوات المعيشة التي تنزل في راتبه، بهذا الشكل يمكن أن يرفع الدعم وفي الوقت نفسه يعودُ إلى [الفرد الواحد] الفارقُ الذي يدفعه حاليا، مثل هذا التصرف سيحل الأمر جذريا، كذلك الأمر مع الكهرباء، ومع الماء، فالفكرة ليست في الدعم أو غيابه، إن حدوث أزمة في العقارات في عمان مثلا كفيلة بامتصاص دخل الفرد فوق ما يشكله رفع الدعم عن الكهرباء والماء والبترول، وهُنا يأتي دور الحكومة في هندسة النقص المالي لكي لا تدفع كفّة الكلفة أكثر من كفّة.
للفضيلة ضرائب، وهذه أحد ضرائبها، ولا أظن أن أحدا يمتلك حسا وطنيا سيقبل أن تكون عمُان طرفا في الجنون العربي القائم، موقف عُمان تجاه السلام الدولي واضح وقديم ومستمر، وعندما نأتي إلى الأثر الداخلي لضرائب هذه الفضيلة علينا أن نتذكر أنها ليست المرّة الأولى التي تمر بها البلاد بهذه الظروف، ولن تكون الأخيرة، فالأمر لا يتعلق دائما بوجود الأزمة، وإنما بحلحلتها، شخصيا لست متشائما على الإطلاق، وما يحدث الآن في الوطن العُماني بسبب ظروف خارجية لم يصنعها هو متوقع، الحلول لن تكون مرضية للجميع، وكلنا نحمل الأمل ألا يصل الحال إلى المساس بدخل المواطن الفرد، إن فكرة رفع الدعم أو وجود الدعم يجب أن تقاس بأثر ذلك على الاقتصاد العام، لا أجدني أقلق على سعر البترول بقدر ما أجدني [أخاف] من حدوث أزمة عقارية كما حدث في عام 2006 فصاعدا، حينها لن يخسر الشاب العُماني المتوظف حديثا [50] ريالا في الشهر، ولكنه سيخسر [250] ريال مضافة إلى تكاليف الحياة في شقة سيرتفع إيجارها للضعف، هنا يكمن الخوف، أن تتكرر تلك [الأزمة] السوقية، وهنا نقف أمام شيء محير في الاقتصاد، في ظل ارتفاع سعر النفط، ارتفعت إيجارات الشقق حتى وصلت لمبالغ خيالية، ونزل الوافدون وزاحموا المواطن في الشقق، وفي ظل انخفاض سعر النفط تنزل أسعار الشقق ولكن الميزانية العامة تعاني من مشاكل في تغطية العجز في بعض البنود، الاقتصاد ليس فكرة خطية أحادية تسير في جهة واحدة، وكل هذه العموميات التي أطرحها كان من الواجب على أهل الاقتصاد أن يبصروا بها مواطن بسيط مثلي، فكما يتم مناقلة الأموال من مشروع لآخر، يقوم المواطن أيضا بدراسة وضعه، ودراسة تعليم أبنائه وعلاجهم، علاقة النفط بالمعيشة ليست واضحة وخطية، المزيد من النفط قد يكرر أزمة [2006] العقارية، والقليل منه شكل ضغطا على الحكومة، تعقيد الموضوع يجعلني أقول أن بوصلة الكتابة عليها الآن وبشكل سريع أن تتجه إلى هذه التفاصيل بدلا من العموميات التي يفهمها الجميع، وأقصد بالتفاصيل الأرقام التي يمكن للكاتب الاقتصادي أن يقدمها للمجتمع بدلا من تكراره ليل نهار سرد أسباب هذه الظروف الاقتصادية، ماذا بعد؟ هذا هو المهم؟ لكي تنزل الأقلام على الأوراق، ولكي تحبرَّ الصحف بشيء مفيد!!!