في مدرسة الصيام

 

الشيخ/ محمود عبد الغني

مع هلال هذا الشهر الفضيل فتحت مدرسة الصيام أبوابها ونثرت عبير دروسها، وهي تحمل عظيم المعاني وجميل المفاهيم التي تعم حياة المسلم فتنظم له الحياة والمعاش، وتؤهله للفوز العظيم يوم الميعاد، إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يجسد لنا الصيام  في أبهى حلله وأسمى معانيه حين يقول (الصوم جنة)، فلو ألقى المسلم سمعه وبصره لهذا اللفظ النبوي الشريف (جُنة) وما فيه من نورانيات، وما يشتمل عليه من فيوضات، لعلم أن الصوم للقلب والبدن حقا هو جهاز مناعي وطبيب وقائي، يجليه الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الهدي النبوي، لهذا قال العلماء (جُنة) يعني وقاية، فالصوم (جُنة) ووقاية من النار لأنّه يقي الإنسان شر الشهوات والنار محفوفة بالشهوات، ووقاية للبدن من الأسقام لقوله عليه الصلاة والسلام (صوموا تصحوا) رواه الطبراني (كشف الخفاء ج1 ص 539) وخير وقاية للصيام هي وقايته للقلب من التعلق بغير الله، ويتجلى ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم (جُنة) لأن مادة جنن في اللغة العربية تعني الخفاء  فقد سمي الجنين جنينا لأنه مخفي في الأحشاء، قال تعالى (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى)، والليل يجن لأنه يخفي الأرض بظلامه،  قال تعالى (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً ..)، وسمي الجن جنا لأنه يختفي عن الأنظار يقول الله سبحانه (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُم). وسميت الجنة جنة لأن نعيمها مخفي في الدنيا لا يعرفه الناس إلا في الآخرة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ، قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم ( قال الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فاقرأوا إن شئتم (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ..) كذلك حال الصائم مخفي عن الخلائق لا يعلمه إلا الله، لا يطلع عليه ملكَ فيكتبه ولا شيطان فيفسده، وفي هذا وقاية للقلب من التوجه لغير الله أو التعلق بسواه، وفي الحديث القدسي (الصيام لي وأنا أجزي به..).

إنّ الصيام يهب المسلم حياة البدن لأنّه صحة للبدن وقوة للجسم، ويهبه حياه الروح لأنّه يرتقي بالمسلم عن عالم المادة، ويعلو به ليتصف بصفات الملائكة، وكيف لا.. وهو لقلبه فرح، ولبصره وبصيرته نور، وبه يصل العبد إلى منزلة التقوى.

ففي مدرسة الصيام يصحح مفهوم المتاع الدنيوي عند العباد، إنّه يخاطب من هدفه في الحياة:

إنما الدنيا طعام وشراب ومنام   **   فإن فاتك هذا فعلى الدنيا السلام

يقول له إن التقوى وللروح زادا، وإن الصيام سبيل التقوى، فلا تسرف في زاد الجسم على حساب زاد الروح

يا خادم الحسم كم تسعى لخدمته    **   أتطلب الربح مما فيه خسران

أقبل على النفس واستكمل فضائلها  **  فأنت بالنفس لا بالحسم إنسان

ولا شك أن طمأنينة النفس وسمو الروح يمنح الإنسان دفعة إيجابية في حياته، فترى الصائم في رمضان ذا عزيمة في العمل، وجلد ومثابرة أكثر من غيره، بل تراه يريد أن ينجز عمله وقت صومه قبل أن يفتر جسده، ويقل عزمه بعد الإفطار، وذلك لأن للصوم حركة تغيير إيجابية لحياة المسلم، وعطاء الإيمان المنبعث من الصوم يمنح العبد العمل الجاد، لهذا كان الصيام حافزا على العمل وزيادة الإنتاج، لأنه على الصائم ضبط القوت وأعطاه شحنة إيجابية من المراقبة لله، عماد التقدم والرقي إخلاص وصدق وحسن تنظيم للوقت، واستغلال وترشيد للطاقات، وتنمية للمواهب والقدرات ويتحقق كل ذلك ببركات الصيام لأن الصائم لابد وأن ينظم وقته ويوازن بين قدراته ومتطلباته لكي ينجز عمله بلا تقصير في العمل ولا العبادة.

إنّ للصيام حلاوة لا تُعرف إلا بالذوق، وله في القلوب نورانية، تعتمل فتظهر آثارها على القسمات والملامح، ويفوح شذا عبيرها في السلوكيات والأخلاقيات والمعاملات، فمن هذا الفيض العذب هل من مغترف، وبهذه الحقائق العليا هل من معترف، أبعد ما أخذ الصوم بمجامع القلوب فزكت النفوس يضل الصائم أو ينحرف؟! معاذ الله أن يعاقر الصائم المعاصي أو أن يقترف إنّما الصوم حياة وحياء وإن الله بفضله ورحمته يمن على من يشاء.

  • أمام وخطيب جامع المحطة بولاية البريمي

تعليق عبر الفيس بوك