حميد السعيدي
اعتمدت الحضارة الإسلامية في تقدمها وتطورها على المسلم المؤمن بالله تعالى، والمؤمن بعقيدته ودينه ورغبته في القيام بأدواره في الدفاع عن الدين والوطن، هذا الانتماء الديني والوطني هو كان منطلق بناء الحضارة؛ لذا وصلت أرقى فترات تطورها لتتمدد في ثلاث قارات خلال فترة زمنية وجيزة، ويعود ذلك إلى العهد النبوي الذي يعتبر أنقى مراحلها، حيث تمّت تربية المسلمين على يد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وغرس فيهم الصفات الإيمانيّة التي أهلتهم لقيادة العالم فيما بعد، فالوصول للغايات السامية يتطلب من المرء أن يكون على مستوى عال من الإيمان بقدراته على الإنجاز بغية النهوض بوطنه والإسهام في حضاراته، وما وصلت إليه الحضارة الإسلامية خير دليل على أهمية المواطنة.
فقد شهد العهد النبوي مراحل تأسيس الدولة الإسلاميّة بصورتها المعاصرة، والتي تضمّنت فكر الشريعة الإسلاميّة حيث جاءت عامة وشاملة لكافة جوانب الحياة، ويمثل العهد النبوي الفترة الزمنيّة التي حدث فيها توظيف كل الصفات والمبادئ السامية التي جاءت بها الرسالة الربانيّة، حيث هدف إلى بناء المجتمع المدني المسلم بالصورة المثالية التي رغبت بها الشريعة الإسلاميّة، بما تضمّنه هذا المجتمع المدني من كل الصور الراقية في التعامل والمشاركة فيما بينهم وتوزيع الأدوار المجتمعيّة بغية النهوض وانتشاله من مرحلة إلى أخرى أكثر تطورا، مما يعطي دلالة على مدى الاهتمام ببناء الفرد في ضوء فكر المواطنة، من حيث انتمائه الديني والوطني والقيام بالعديد من الالتزامات التي تحقق تلك الانتماءات، سواء تجاه تلك الدولة التي بدأت في مراحل التأسيس أو تجاه المجتمع التي تضمن مرحلة البناء الاجتماعي والاقتصادي والتعليمي.
وخلال هذه العهد برزت العديد من صور المواطنة ذات الفكر المعاصر، حيث إنّ الفترة التي بدأت منذ الهجرة النبوية الشريفة هي الانطلاقة الحقيقيّة للدولة الإسلاميّة، حيث سعى النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى بناء المسجد كبداية لتأسيس الدولة الناشئة، وكان يمثل مجلس السلطة الحاكمة ومن خلاله كانت تدار جميع شؤونها وتتخذ القرارات بشأن الغزوات والمعارك، وترسل الدعوات والخطابات التي تدعو للدين الإسلامي، ومجلس للشورى كانت تبنى عليه الدولة من خلال مشاركة المسلمين في إدارة البلاد، والأخذ برأي المجتمع المدني والمشاركة في الرأي في اتخاذ القرارات التي تتعلق بنشر الدين الإسلامي والدفاع عنه وعن المدينة المنورة، وتعتبر حادثة معركة الأحزاب والأخذ برأي الصحابي سلمان الفارسي خير دليل على الشورى، ومجلس للقضاة حيث يحكم بالعدل بين الناس، ومدرسة للتعليم حيث يعلم المسلمون شؤون دينهم، وهذه المشاهد تتوافق مع توجهات المواطنة الحديثة وأدوار السلطة الحاكمة في تأسيس النمط القيادي الحديث، وتأطير العلاقة بين الحقوق والواجبات وفقا لفكر المواطنة.
وتعتبر الوثيقة النبوية التي صاغها الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة بعد الهجرة بداية لصياغة الدستور حيث تضمّنت مجموعة من الأنظمة التي تنظم العلاقة بين جميع أطياف مجتمع المدينة، فشملت حقوق المسلمين من الأنصار والمهاجرين، وغير المسلمين من اليهود والنصارى، وهذه التشكيلة المجتمعية كانت بحاجة إلى نظام يساعد على تحقيق التآلف بينهم، ويعطي الحقوق ويحدد الواجبات على الجميع وهنا تكوّنت أول صور المواطنة في العهد النبوي، وتضمّنت هذه الوثيقة الدفاع عن المدينة المنورة من جميع سكانها، ووثقت مجموعة من العهود على الجميع وهنا يبرز دور المواطنة في الانتماء للمكان.
وجاء الاهتمام بالحقوق والأحوال الشخصيّة للمجتمع كأحد المشاهد الوطنية التي تؤطر الأنظمة المجتمعية المتعلقة بالزواج والطلاق والميراث وفقا لنظام إسلامي يقوم على البناء التكاملي بين أفراد المجتمع، ونشر فضائل السلام بينهم مما يشكل بناء مجتمع متكامل، وقد شهد أرقى صور التكافل الاجتماعي عندما حدث الأخوة بين المهاجرين والانصار في حدث إسلامي يمثل المشاركة المجتمعيّة لأفراد المجتمع وتحقيق مبدأ التعاون والإيثار والإخاء بينهم، من أجل إعادة بناء المجتمع بصورة متوافقة بين كل أطيافه، كما ركز على بناء المجتمع وفقا للأسس الدينية التي تنظم العلاقة فيه من خلال تحقيق المساواة بين الجميع في الحقوق والواجبات على اختلاف أشكالهم وأصولهم ولغاتهم (لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر، إلا بالتقوى).
وجاء تأكيد القيادة الإسلاميّة والقيام بواجبات الحكم والعدالة من خلال العودة إلى النبي عليه الصلاة والسلام في الاحتكام إلى الخلافات التي تحدث بين المجتمع المدني، مما يؤكد تواجد السلطة القانونية التي تركز على تحقيق العدالة وفقا للشريعة الإسلامية حيث كان يمثل المرجعية القانونية، لذا فتحقيق الحقوق والواجبات بين المواطن والدولة أو السلطة الحاكمة هو ما يتعلق بالمواطنة الحديثة، حيث ورد لفظ "الرعيّة" مقاربا للفظ المواطنة في السياق اللغوي للحديث النبوي "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"، مما يعطي دلالة على وضوح العلاقة بين الحاكم والشعب.
ويأتي الاهتمام بالحياة اليوميّة للمجتمع من خلال تبني القيم الفاضلة فيه، حيث تضمّن العهد النبوي ترسيخ الكثير من الآداب المجتمعيّة، كآداب التعامل المالي وكيفيّة ترسيخ فكر العقود وكتابتها والشهود عليها، كما تضمّن آداب الطريق والمحافظة عليها واحترام استخدامه بما يحقق التآلف المجتمعي، إلى جانب التركيز على العلاقة بين أفراد المجتمع بين الكبار والصغار والعلاقة بينهم، كل هذه الأنظمة تضمنت التركيز على أهميّة بناء المجتمع وفقا لمجموعة من الأنظمة والقوانين التي تربط بمضامين المواطنة ومدى مقدرتها على بناء المجتمعات المتقدمة، حيث أصبحت أحد الصفات الراقية التي تميز بها المجتمع المسلم عن غيره، حيث تضمنت الصدق والعدال والحياء والإحسان، والتعاون بينهم على البر والتقوى، وكرم الضيافة، وإعانة الفقراء والمساكين، والحفاظ على حقوق الجار والتعايش السلمي بينهم مما يشكل مجتمع متطور في المعاملة الاجتماعية.
وما يمكن استخلاصه أنّ السنة النبوية تضمنت فكر المواطنة ومضامينها كممارسات فعلية حدثت في المجتمع المدني، وكلها كانت هادفة إلى تشكيل الأساس الديني القائم على الشمولية فيما يتعلق ببناء المسلم وفقا لمجموعة من القيم الفاضلة والمبادئ النبيلة حيث ركّز البناء على وحدة الأرض، وعلى القيادة السياسيّة، وعلى الحقوق والواجبات، وتحقيق العدالة الوطنيّة، والمساواة بين الجميع، وحرية الرأي والدين، مما يعطي مؤشرًا حقيقيًا على مدى الترابط بين فكر المواطنة والشريعة الإسلامية.