فيتنام: حين صمدت جبهة التعليم صمد كل شيء

د. سيف المعمري 

لن أتوقف عن الكتابة عن التعليم، وعن استطلاع آليات النهوض التي وظفتها دول العالم وبالذات غير المتقدمة، لأني مؤمن بأن التعليم هو السبيل الأهم في تحقيق التقدم، وفي إعادة بناء مجتمعات متعلمة، توظف العلم في حل الإشكاليات التي تواجهها، وفي بناء إرادة ومقاومة للظروف المتقلبة التي تواجهها؛ فعندما تكون جبهة التعليم قوية سوف تصمد بقية الجبهات؛ أما حين تضعف جبهة التعليم فتتهاوى مختلف الجبهات الاقتصادية والقيمية والاجتماعية خلفها، ولا نحصد إلا مجتمعات تعيش في الماضي، وتتصارع على ما جرى فيه، وتعتقد أنها قادرة على حسم ما لم يحسم، والأولى أنها تجعله قوة محركة للبناء، وعلى تجنب ما جرى فيه من انكسارات، هكذا فعلت فيتنام، الدولة التي تعلمت من الماضي درسا مهما وهو أنّها يجب أن تكون أمة قوية غير قابلة للاستعمار بأي شكل مرة أخرى، ولذا ركزوا على تعليم طلابهم قيم الحرية والاستقلال وعدم الخضوع، وعملوا على بناء الإنسان الفيتنامي المعتز بنفسه وبلغته وبإمكاناته، لم يستسلموا لإرث الاستعمار الفرنسي الذي دام ثمانية وثمانين عاماً، والاستعمار لم يعمل يوماً على بناء الوعي عند الشعوب المستعمرة، إنما كان يعمل على تجريدها من مكامن القوة، ومن ضمنها التعليم الذي كان الفرنسيون يدركون أنه سلاح لا يجب أن يكون متاحاً للفيتناميين، ولنا أن نتخيل كيف أن (50) ألف نسمة من أصل (23) مليون فيتنامي يعرفون مبادئ القراءة والكتابة فقط، وكان التعليم والإدارة باللغة الفرنسية مما قاد إلى إضعاف اللغة الفيتنامية، ولم يكن في البلاد إلا جامعة واحدة يدرس بها (200) طالب فقط، معظمهم من أبناء الجالية الفرنسية.

وما أن تخلص الفيتناميون من الاستعمار الفرنسي، حتى جاء الغزو الأمريكي مع بداية الستينيات من القرن الماضي، وكان الفيتناميون نصفهم يقاوم العدو، والنصف الآخر يقوم بتعليم الأطفال، لأنهم آمنوا أن جبهة القتال لا يجب أن تؤدي إلى سقوط جبهة التعليم، وانتهجوا في ذلك منهجية تستحق أن تدرس اليوم كمؤشر على الإيمان بالتعليم، حيث تخلوا عن المباني المدرسية، واتجهوا إلى القرى ، وعلموا على تقسيم الطلبة إلى مجموعات صغيرة، وكان التدريس يتم في الخنادق، وتحت القصف أحياناً، لكن هذا شعب أدرك أن الحروف التي تتعلم تحت القصف، تتحول إلى أسلحة لا يمكن مقاومتها، وأن المعلمين الذين أصروا على التعليم في ظروف الحرب، لابد أن يكونوا رموزا وطنية مؤثرة؛ فلا أحد يعرض نفسه للخطر إلا من أجل قيمة سامية، فالجندي والمعلم كانا ولا يزالان مصدر قوة لأي مجتمع، وعلى قدر إخلاصهما تطمئن المجتمعات على نفسها، وقد أثبت الفيتناميون ذلك، وقدموا الدرس الذي يجب أن يدرس لأن هناك مجتمعات لا تزال تحتاج للتعلم مما قامت به الشعوب الأخرى، وتستنهض عزائمها من أجل البناء والتنمية، فليس هناك أسوء من الحرب ومع ذلك لم تضعف قوة الفيتناميين، ولم يختبئوا في القرى والخنادق يتفرجون على بلدهم وهي تدمر، ولم يجعلوا الوقت لتبادل اللوم والاتهامات، فما بال شعوب اليوم في ظل تحديات كبيرة لا تقتدي بكل ذلك، تجدها بدلاً من أن تتواجد في ساحات العمل، تهدر طاقاتها في شبكات التواصل، وبدلاً من أن تبادر وتقدم القدوة تجدها تتلكأ بمختلف مستوياتها الاقتصادية والفكرية، ألا تدرك مثل هذه المجتمعات أن أزمات السلم أفضل من أزمات الحرب، حيث العمل يكون على جبهة واحدة، بدلاً من يوزع على أكثر من جبهة، مما يزيد من فرص التغلب عليها. أن من لا ينتصر في جبهة التنمية، لن ينتصر في جبهة الحرب.

لقد نجح الفيتناميون في الحفاظ على بلدهم مستقلة، ولم يفلح الأمريكيون ومن قبلهم الفرنسيون في السيطرة على شعب آمن بقيمة الكتاب والمدرسة، ولم يكتف الفيتناميون بتحرير أنفسهم من السيطرة العسكرية فقط، بل عملوا على تحرير أنفسهم من السيطرة اللغوية، وأنفقوا في ذلك جهداً كبيراً، وأسسوا لجانا لغوية وعلمية للترجمة كان تعمل وفق وصية مهمة من الزعيم الفيتنامي "هوشي منه" وهي "اسهروا على صفاء اللغة الفيتنامية كما تسهرون على صفاء عيونكم". وبهذه الإرادة تمكن الفيتناميون خلال عشرين عاما من ابتكار ربع مليون مصطلح علمي وتقني، ومضوا يعلمون بلغتهم الوطنية، رغم أن كثيرا من النخب العلمية كانت يجيدون اللغة الفرنسية واللغة الإنجليزية، إلا أن اللغة تمثل مصدر قوة واستقلال، وهذا درس فيتنامي آخر للدول التي لا تزال ترى أن المهمة مستحيلة في بناء مناهج ذات جذور وطنية، وأنه من الأفضل والأسلم استيرادها من الغرب، لقد أصبحت تستورد كل شيء، ولم يبق إلا أن تأتي بوزراء التعليم ووزيراته في تلك الدول لكي يشرفوا على تنفيذ ما أخذ منها، ربما يكونون قادرين على تهيئت أسباب النجاح له، مما يجنب هذه الدول الفشل المتوالي، لكن لا ضير في ذلك فمن يستورد مرة يعتقد أن العيب دائما في المنتج وليس في كيفية تشغيله أو في عدم ملائمته للمجتمع، ولذا الحل هو مزيد من الاستيراد، ألا يمثل هذا هدرًا لتاريخ مجتمعات لا تزال تتلمس خيوط النور في ظل أزمات سياسية واقتصادية متواصلة.

فيتنام التي يزيد عدد سكانها عن تسعين مليونا أصرّت أن تتفوق على مستعمريها السابقين، الذين نظروا إليها على أنها أمة ضعيفة، وقتلوا منها أكثر من خمسة ملايين، ولذا واصلت العمل على التعليم بكل جد حتى هزمت الولايات المتحدة مرة أخرى في التعليم كما هزمتها من قبل في الحرب، حيث احتلت المركز (12) في عام 2015 في تصنيف منظمة التعاون والتنمية (OFCD)، وكانت فيتنام قد دخلت لأول مرة في اختبارات "بيزا" في عام (2012) حيث احتلت المرتبة (17) في الرياضيات، و(8) في العلوم، و(19) في القراءة أي أعلى من الولايات المتحدة في جميع المواد الدراسية التي احتلت المراتب (36) و (28)، و(23) في الرياضيات والعلوم والقراءة على التوالي، أما في التصنيف العالمي الصادر عن منظمة التعاون والتنمية في مايو (2015) على أساس العلوم والرياضيات، احتلت فيتنام المرتبة (12) بينما احتلت الولايات المتحدة المرتبة (28). بل إن النتائج كشفت أن ما يقرب من (17%) من أفقر الطلبة في فيتنام البالغين من العمر (15) عاماً هم من ضمن الـ (25%) الأعلى أداءً في جميع البلدان النامية والاقتصاديات التي تشارك في اختبارات بيزا.

ولذلك فاجأ هذا الإنجاز الجميع في العالم - ما عدا الدول العربية - الذين تساءلوا كيف تحقق ذلك؟ لأن العالم نسي فيتنام منذ أن انتهت الحرب الأمريكية عليها، وظن كثيرون أنّ بلدا خرج بذلك الدمار في كل شيء، واستنزفت قدراته الحرب لن يتمكن من النهوض مرة أخرى، ولذلك لا داعي للتفكير فيه، ولكن كان الفيتناميون يعملون بصمت حتى لا يكون خلف الدول الآسيوية التي تحقق نجاحات في كل شيء مثل سنغافورة وماليزيا وتايوان واليابان، أصروا أن يكون لهم مكانا بين كل هؤلاء، ولم ينظروا إلى عدد السكان الكبير بأنّه نقطة ضعف إنما نظر إليه نقطة قوة كبيرة، ولذا اجتهد اندرياس سشليشر مدير التعليم والمهارات في (OECD) في الإجابة عن ذلك السؤال حيث وجد ثلاثة عوامل تقف خلف ذلك النجاح هي: قيادة ملتزمة، ومنهج مركز، واستثمار متنام في المعلمين.

في ما يتعلق بالعامل الأول فقد التزمت القيادة بتعزيز التعليم وخصصت ما يقرب من (21%) من مجموع الإنفاق الحكومي في عام (2010) للتعليم وهي نسبة أكبر من أي نسبة خصصتها بلدان مجموعة التعاون والتنمية، أما في ما يتعلق بالعامل الثاني وهو المنهج فقد صمم بحيث يقدم مفاهيم عميقة تجمع بين النظرية والممارسات العملية، ومن زيادة الاكتساب تميزت الفصول الفيتنامية بدرجة عالية من الصرامة، حيث يتحدى الطلبة بكثير من المسائل والأسئلة العميقة التي تحفز التفكير لديهم أي أنّهم تخلوا عن التلقين الذي لا يقود إلى أي معنى، أمّا العامل الثالث وهو المعلم فهو يتمتع بدرجة عالمية من الاحترام من قبل المجتمع والدولة، كما أنهم أعطوا درجة عالية من الاستقلالية المهنية.

لقد طرح الإعلامي حمود أبو طالب سؤالا مهما في جريدة عكاظ بتاريخ (23 مايو 2015) وهو: متى نسبق فيتنام؟ إلا أن الإجابة من وجهة نظره قد تبدو غير سهلة لأنّ التعليم لا يزال "عرضة للمناورات والمماحكات والسجالات منذ زمن طويل، ليستمر التعليم لدينا ضحية هذا الوضع الخاطئ. كل طرف يريد التعليم بحسب رؤيته الخاصة، بينما التعليم الصحيح له نظرياته ومعاييره وأهدافه التي لا يختلف عليها الناس في بقية دول العالم، وغير خاضع لأن يكون ساحة للمواجهات الفكرية. تعليم مترهل يفتقد الكثير من العناصر الأساسية لنجاح أي تعليم مهما كانت الميزانيات المرصودة له، ومهما توفرت النوايا الحسنة لتطويره. هذا هو وضع تعليمنا الذي جعله يسابق على مؤخرة التصنيفات وليس مقدمتها".

saifn@squ.edu.om

 

تعليق عبر الفيس بوك