في كوريا.. المصلحة العامة أولا

حقيبة ورق

حمود بن علي الطوقي

لفت انتباهي وأنا أتجوَّل في أحد المراكز التجارية بالعاصمة الكورية سيؤول عبارة مُعلقة على مدخل محل تجاري تقول "مصلحة الأُمة تسبق المصلحة الخاصة" تأملت ملياً هذه العبارة التي تحمل مدلولات عميقة، والتي تمثل واحداً من أسباب القفزة الاقتصادية التي تجني ثمارها حالياً الجمهورية الكورية بل وظلت هذه العبارة شعارًا ونبراسًا للمجتمع الكوري الجنوبي الحديث وتوارثها عبر الأجيال.

هذه العبارة السحرية هي الشعار الذي أطلقه الرئيس الكوري بارك تشونغ عندما تولى الحكم في كوريا عام ١٩٦٢، وكانت كوريا وقتها تقبع في مستنقع الفقر حيث كان متوسط دخل الفرد لا يتجاوز ٩٠ دولاراً، وتتلقى المساعدات الإنسانية من الدول المجاورة إلا أنّ العبارة السحرية التي أطلقها الرئيس بارك في حملته التصحيحية كانت بمثابة خارطة الطريق للنهوض بالشعب الكوري إلى مرحلة جديدة تتسم بالاحترام والإخلاص في العمل ليرتفع متوسط دخل الفرد مع نهاية عام ٢٠١٥ إلى ٢٥ ألف دولار سنويًا.

هذا الشعار السحري يحتوي مبادئ وقيم وخارطة طريق ساهمت في الطفرة الاقتصادية لكوريا، ويقف على قمة هذه المبادئ - جودة التعليم- فمنذ الصفوف الدنيا وبفضل التعليم الجيد تمكنت كوريا من أن تسابق الدول العظمى بل تفوقت على ألمانيا وبريطانيا والسويد في عدد خريجيها من الكفاءات في تخصص الهندسة وأصبحت الآن تنافس اليابان في مجال تخصص التكنولوجيا.

يُرجع المخططون الاقتصاديون والمراقبون أسباب نجاح كوريا وتصدرها لقائمة الدول من حيث التعليم والتقدم الحضاري، لما يتميز به الشعب الكوري من حب للعمل، وقد كانت العمالة الكورية تعمل تحت ظروف قاسية لأكثر من ٥٠ ساعة في الأسبوع دون تذمر أو كلل أو ملل وذلك تحت شعار "المصلحة العامة فوق المصلحة الخاصة". ونتيجة لهذا الحماس في العمل استطاعت كوريا أن تنهض باقتصادها لتطرق باب الصناعات الكبرى بعد أن تمَّت تهيئة البيئة المُناسبة للإبداع والإتقان.

وبفعل جودة السياسة التعليمية الناجحة استطاعت كوريا أن تسبق العديد من الدول في امتلاكها قوة هائلة من العمالة الماهرة التي تعمل في مجالات الصناعة والتكنولوجيا وقطاعات الإنتاج واللوجستيات .

استحضرت وأنا أتجول في كوريا المُحاضرة التي ألقاها الرئيس الكوري الأسبق ليم يونج باك في مسقط عام ٢٠١٤، والتي استعرض خلالها التجربة الكورية ونجاحها في أن تصبح من ضمن أقوى عشر دول على مستوى العالم، من حيث الاقتصاد، وأذكر أنني سألته عن سر نجاح كوريا فقال باختصار شديد إنّ نجاحنا يأتي من خلال تطبيق قيم العمل وتتمثل في ثلاثة محاور أساسية يؤمن بها المواطن الكوري وهي التي أهلته لاحتلال مكانة عالمية رفيعة وهي جودة التعليم والإخلاص في العمل والولاء والانتماء وحب الوطن.

هذه المبادئ المهمة ارتكزت عليها سياسات كوريا، ووضعت بناءً عليها الخطط الخمسية الهادفة إلى النهوض بالبلاد في كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية والرياضية.

الحقيقة المُفرحة أنّ الإستراتيجيات المعلنة في الخطط الخمسية الكورية يتم تنفيذها وفق قنوات التخطيط والتنفيذ والمتابعة والمحاسبة، هذه المبادئ الصارمة جعلت من كوريا اليوم قوة اقتصادية عظمى وبعد هذا النجاح الباهر الذي أبهر العالم تتجه كوريا الآن إلى تبني إستراتيجية جديدة مبنية على الابتكار وهي رؤية الاقتصاد الإبداعي لكوريا خلال المرحلة القادمة وستركز كوريا خلال الحقبة القادمة على مسايرة العالم والتفوق في مجال الإبداع والابتكار.

تعليق عبر الفيس بوك