د. عبد الله عبد الرزاق باحجاج
كل من تابع بيان ونقاشات معالي وزيرة التربية والتعليم داخل مجلس الشورى طوال يومين متتاليين، ولديه معرفة بالواقع التعليمي ونتائجه التحتية، ويستطيع استشراف تداعياته الاقتصادية والقيمية وحتى الأمنية، سوف تتعزز لديه قناعة كاملة بأنّ عملية تطوير التعليم في بلادنا، تحتم مراجعة شاملة، وإحداث نقلة كبرى من ثلاثة مستويات أساسية على التوالي من حيث الأهمية، الإصلاح والتغيير والتطوير بصورة تلازمية وبقرارات جريئة واستثنائية تحظى بمُباركة سياسية عليا صريحة ومباشرة، ودون ذلك، ستظهر أية عملية تطويرية وكأنها عملية ترقيع، أو بناء قصر فوق رمال مُتحركة، وفي مقالنا الأخير، من هنا يبدأ طريقنا نحو المستقبل،، أوضحنا خطأ التركيز على البنى الفوقية دون إصلاح البنى التحتية التي تنتج ظواهر سلبية مثل الغش في الامتحانات وشراء البحوث والتسرب والعنف والتدخين ... إلخ ووقفنا عند المطالبة برؤية جذرية تشرك المجتمع في العملية التربوية والتعلمية، ودونها سيكون كمن يبني قصراً فوق رمال مُتحركة.
واعتبرنا إصلاح البنى الأساسية إحدى البوابات الأساسية لنجاح تطوير التعليم في بلادنا، وبعد المناقشات، تأكدت لنا صحة رؤيتنا، وانكشفت أمامنا بوابات أخرى مهمة جدًا، نجدها بمثابة الصخرة التي تتحطم فوقها إرادة التطوير الحقيقية، وهنا تظهر لنا الحتمية الإصلاحية في إعادة النظر في هيكلية مجلس التعليم، وقبل أن نُقدم مرئياتنا للهيكلية دعونا نطرح التساؤل التالي: هل مجلس التعليم في هيكليته الراهنة يُوفر فضاء تعدديًا للتشاور وتبادل الرأي، ويمثل قوة اقتراحية، ورؤية استشرافية نافذة؟ وبعيداً عن الحيثيات المُتحكمة في ميلاد هذا المجلس الجديد، فإنّ هيكلته ينبغي أن تجمع بين ميزتي التمثيلية والخبرة مكونة من السلطات الحكومية والفاعلين الاقتصاديين ومؤسسات المجتمع المدني المعنية إلى جانب ممثلي مجلسي الشورى والدولة وجمعيات المعلمين - في حالة تشكيلها - وممثلين عن الطلبة، على أن تكون هناك لجان دائمة متخصصة، فهل تتوافر في هيكلية مجلس التعليم الحالية هذه التمثيليات المتعددة؟ ولماذا هذه التمثيلية لأن مسؤولية التربية والتعليم في بلادنا هي مسؤولية متقاسمة تستدعي العقل الجماعي والنقاش البناء والاقتناع المشترك بضرورة إنجاح عملية التربية والتعليم لكي تساهم في ترسيخ المجتمع العماني المتماسك والمتضامن بولاءاته الثابتة والمقدسة ولكي تنتج لنا كفاءات يُعتمد عليها اقتصادنا الوطني.
كما تظهر لنا الحتمية الإصلاحية هنا، كذلك في إعادة هيكلية وزارة التربية والتعليم نفسها، وثقلها الإداري الكبير الذي يُعرقل مسيرتها، وتداخل المسؤوليات مع وزارات أخرى وبالذات وزارة التعليم العالي اللتين تتقاذفان مسؤولية ضعف المخرجات، وهنا نُقدم منظورين اختياريين، الأول دمج وزارتي التربية والتعليم والتعليم العالي في وزارة واحدة بعدة مساعدين برتبة وزير مع منح المحافظات التعليمية الاستقلالية الإدارية والمالية، ومشاركة المؤسسات المحلية في كل محافظة المنتخبة والأهلية والمدنية كالمجلس البلدي والشيوخ الفاعلين والتربويين القدامى والمُعلمين في تنفيذ الإستراتيجيات والخطط والسياسات المركزية والقضاء على الظواهر السلبية في كل محافظة مثل الغش والرسوب والتسرُّب والتدخين .. إلخ المنظور الثاني، الإبقاء على الثنائية الوزارية مع إعطاء المحافظات التعليمية الاستقلالية الإدارية، ورفع الإشراف الإداري من مدير عام إلى وكيل وزارة، ويكون من أبناء المحافظة نفسها، مع تعضيده بتلك المشاركة المجتمعية وبتلك المستويات الرفيعة، وهذه المشاركة لابد منها بعد فشل الادارة المركزية في معالجة الظواهر وتطبيق الإستراتيجيات والسياسات، فكل مجتمع محلي ينبغي أن نشركه في إدارة تطوره وحل مشاكله، وبذلك سنضع كل مجتمع محلي أمام استحقاقاته الإقليمية والمحلية في تنفيذ الإستراتيجيات والخُطط والسياسات المركزية، فهذه الاستقلالية ورفع مستوى الإشراف الإداري - مرتبة وكيل- وتلك المشاركة المجتمعية المُتعددة مع الجهة الحكومية ستنتج لنا قوة تعبئة ويقظة مستدامة داخل المدارس، كما ستبلور ثقة وارتقاء بين الجهة الحكومية والمجتمع وهيئة التدريس، وهذا الذي تحتاج المرحلة، ومن خلالها سنضمن إدارة أية إكراهات أو تحديات من القطاع التعليمي في بلادنا، وفي كلتا الحالين - سواء تبنينا المنظور الأول أم الثاني - فإنّ هذه الحتمية تقودنا إلى فتح باب التقاعد الطوعي - الاختياري - للأطر والكوادر الإدارية التي تعج بها وزارة التربية والتعليم بعد الكشف عن أكثر من (30) مستشارًا للوزيرة و(40) خبيرا للوكلاء، وهذا نموذج نجده في كل الوزارات والهيئات الحكومية، فالسياسة الغالبة، أن أية كفاءة تكنوقراطية مصنفة أو غير مصنفة، تحال إلى خبير أو أخصائي .. لعدة أسباب أغلبها مزاجية ووراءها محسوبيات وفق المثل القائل - من أجل عين تكرم ألف عين - لذلك لن نستغرب من استنزاف طبقة المستشارين والخبراء في وزارة التربية والتعليم (60) مليون ريال التي كشفها بعض أعضاء مجلس الشورى، فخيار التقاعد الاختياري ضرورة عاجلة ليس لوزارة التربية والتعليم بل لكثير من الوزارات والهيئات العمومية .. وللوزارة على وجه الخصوص لأنّها موضوع حديثنا الآن، وهذا يعني لابد من منح الموظفين المستهدفين من التقاعد الاختياري امتيازات تقاعدية تدفع بهم إلى المغادرة من تلقاء أنفسهم، وهذا حق من حقهم، فهؤلاء المستشارون والخبراء وجيلنا المخضرم قد قدموا خدمات كبيرة وجليلة أثناء مسيرتهم مع مرحلة تأسيس دولتنا الحديثة .. ورمى بالعديد منهم في مثل تلك المسميات الشرفية .. وتلاحق الأكثرية منهم البصمات الإلكترونية والمحاكم القضائية .. فلابد من منحهم امتيازات في راتب التقاعد وفي مكافأة ما بعد الخدمة حتى يكون هناك نسبة وتناسباً بين الحق والواجب.. كما أن وراء ذلك مصلحة تستلزمها عملية الإصلاح والتطوير والتغيير نفسها.
وحتمية الإصلاح / التطوير/ التغيير، تذهب بنا كذلك إلى فتح ملف الفاتورة المالية لمشروعات وزارة التربية والتعليم - شأنها في ذلك شأن كل الوزارات - وفتح هذا الملف يستدعي تزامنًا معه حتمية تغيير ضرورية في الفاعلين الذين لن يستوعبهم العهد التعليمي المتطور، ففي هذا الملف سنجد أموال الدولة تتبدد وتستنزف بطرق قانونية، مدارس تُقام بالملايين، فمثلا مظلة قيمتها (مليون) ريال، وقاعة للرياضة داخل المدرسة تتكلف (250) ريالاً وموازنة مبنى الوزارة، ارتفعت من أكثر من (8) ملايين إلى (40) مليون ريال ومشروع توصيل خدمة الإنترنت أكثر من مليوني ريال .. أرقام تفقدنا العقل فعلاً، ومع هذا لا تريدون أن تحدث مشكلة مالية أثناء الأزمة النفطية، ولا تتوقعون إشكالية تنموية حتى قبل الأزمة النفطية، وما كشفته مسؤولة كويتية بارزة أمس الأول عن مقارنتها بين تكلفة (مبني)مطار مسقط الدولي وبين مطار الكويت الدولي يجعلنا نفتح هذا الملف، لكي نقول، إنّ تكلفة مشاريعنا العامة تبتلع أموالنا العامة، بعلم نخبنا الحكومية، وبشرعية أجهزتنا الرقابية، فهل نُدرك من خلال ما تقدَّم ضرورات التراتبية الحتمية الثلاثية - الإصلاح، التطوير والتغيير؟.