أمَّة عربيَّة ضعيفة

زاهر المحروقي

قبل أربعة عقود تقريباً، كان في وسع أيِّ متابع للشأن العربي أن يقول إنَّ أكبر تحدٍّ يواجه العرب هو الصراع العربي الإسرائيلي؛ لأنَّ إقامة الكيان الإسرائيلي على أرض عربية كان حديث العهد، وفي ظن العرب -حينها- أنهم قادرون على هزيمة إسرائيل وإعادة الحق إلى أهله، وكان واضحاً أنّ هذا الصراع لا يمكن أن ينتهي تماماً بحل وسط؛ فهناك أرض عربية تم احتلالها بالقوة من قبل عصابات أجنبية، مستغلة ادعاءً أسطوريًّا بوعدٍ إلهي لشعبٍ مختار في أرض الميعاد، ممَّا أدى إلى فصل مشرق الوطن العربي عن مغربه؛ إلا أن بعض المغامرات السياسية العربية غير المحسوبة بدقة، أدَّت إلى إقامة صلح مصري-إسرائيلي منفرد لم يؤد إلى إنهاء الصراع؛ فأي صلح عربي-إسرائيلي لن يؤدي إلى إنهاء الصراع بين الطرفين لسبب منطقي هو أن هناك أرضاً عربية محتلة ويدور حولها نزاع بين طرفين، أحدهما عربي-فلسطيني يملك حق التاريخ وهو موجود في الأرض منذ مئات آلاف السنين، وطرف إسرائيلي يردد أساطير عن شعب الله المختار وأرض الميعاد، ومعزز بترسانة من القوات المسلحة الجبارة والقوة الإعلامية الهائلة، إضافة إلى دعم دولي قوي على رأسه أمريكا؛ فيما كان ديفيد بن جوريون مؤسس إسرائيل الفعلي قد حسم أمر هذا الصراع في وقت مبكر من التاريخ عندما قال: "ليس هناك حل.. فالأرض واحدة.. وطالب الأرض اثنان".

لا بد أن نقول من البداية إنَّ المواجهة بين العرب وإسرائيل أصبحت -للأسف- من أحداث الماضي الآن، بعد المتغيرات التي حصلت في الوطن العربي، والتي أدت إلى أن تقيم بعض الدول العربية علاقات رسمية وأخرى شبه رسمية ومعلنة مع إسرائيل، بعد أن تغيرت فكرة "العدو"؛ إلا أنه ينبغي التأكيد على أنَّ وجود علاقات مع إسرائيل لم يؤدِّ إلى ذلك الاستقرار والرخاء المنشودين، لا في مصر التي كانت السباقة في كسر الحاجز ولا في الأردن التي لحقت مسيرة التطبيع، ولا في أي دولة عربية أخرى؛ بل العكس من ذلك هو الذي حصل، فقد استغلت إسرائيل فترة الهدنة الطويلة بأن بنت نفسها اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً وعلمياً، وأقامت علاقات استراتيجية مع بعض حلفاء العرب، وأصبحت هي التي توجه بوصلة العرب وتقود الأمة إلى حيث تشاء، بعد أن تشرذمت الأوطان العربية إلى دويلات تحارب بعضها البعض، وإلى أعراق ومذاهب تقاتل بعضها البعض.

"أمة عربية ضعيفة، لا طاقة لها بمواجهة إسرائيل"؛ هذه العبارة هي ملخص الدراسة التي نشرها المؤلف الإسرائيلي نتان ليفسون في صحيفة هآرتس الإسرائيلية بتاريخ 6/8/2013، والتي قدم فيها رؤيته حول ضعف العرب مقابل إسرائيل، وقارن في الإنفاق العسكري بين إسرائيل وبعض الدول العربية وكذلك الأوضاع الاقتصادية والأمنية والتعليمية بين الطرفين، والتي صبت كلها في المصلحة الإسرائيلية.

ركَّز نتان ليفسون في دراسته على أن الاقتصاد الإسرائيلي لعب الدور الأساسي في تحقيق الفارق مع الدول العربية، ورأى أن مفتاح القفزة الاقتصادية الإسرائيلية يوجد في التعليم. ففي إسرائيل، معدل المواصلين إلى التعليم العالي عالٍ جداً، مقارنة بالدول العربية. ويقول "كلما واصلت اقتصادات الدول العربية الاستناد إلى كلفة عمل متدنية وأهملت التعليم العالي، هكذا تكون إمكانية النمو الكامنة فيها أدنى. كما أنه كلما اعتمدت على المقدرات الطبيعية هكذا سيعاني إنتاجها من الحراك".

وإذا كان التعليم مهملاً في الوطن العربي ويتصف بالضعف؛ وإذا كانت مخرجات التعليم العالي ضعيفة، فإن الأوضاع الاقتصادية الصعبة وانتشار الفساد، من الأسباب الأساسية التي أدت إلى تراجع الأمة العربية أمام إسرائيل، فهناك أعداد متزايدة من الشباب في الدول العربية الذين لا يتمكنون من دخول دائرة العمل، ويصطدمون بحواجز المنظومة الاقتصادية المشوهة بسبب التدخل العميق من جانب الحكم ومقربيه في الأعمال التجارية، والفساد السلطوي والتعسف، وكذلك الدور الهائل لكبار المسؤولين في الحكم ومقربيهم في النشاط الاقتصادي وفي الانقسام الواضح الذي لا يسمح بخلق اقتصاد واحد.

وتَرَى الدراسة الإسرائيلية أنَّ التعلق بمقدرات الطاقة لغرض التصدير، يكشف ضعفاً آخر للاقتصادات العربية؛ فكلما يجد العالم مصادر طاقة بديلة أكثر، هكذا يصبح تعلق هذه الدول بالنفط أكثر إشكالية، كما أن الدول العربية التي لا تنتج النفط بنفسها، وتعتمد على دعم الدول الغنية بالنفط، من شأنها أن تتضرر من الانخفاض في الطلب على النفط ومصادر الدعم لها ستقل. (والدراسة نشرت أساساً قبل أزمة انخفاض أسعار النفط بثلاث سنوات).

ويُضاف إلى المشكلات الاقتصادية القاسية في البلدان العربية، الاضطرابات التي وقعت باسم "الربيع العربي"، وهي التي وجبت ثمناً باهظاً؛ فعدمُ الاستقرار الداخلي في الدول العربية يحطم الثقة الحيوية لوجود اقتصادات نامية، ويقلص التصدير والاستيراد ويبعد المستثمرين الأجانب؛ وحتى لو تمت إعادة بناء هذه الثقة، فسيتطلب الأمر وقتاً طويلاً لإصلاح الدمار، وستمر سنوات عديدة إلى أن تنجح الدول العربية في العودة إلى المسار السليم، هذا إذا نجحت في ذلك.

ويخلُص نتان ليفسون في دراسته التي نشرها باسم "شرق أوسط ضعيف" إلى أن القوة العربية ضعفت جداً في السنوات الأخيرة؛ فمصر على شفا الإفلاس؛ والحرب الأهلية في سوريا تدفع اقتصادها إلى الوراء بعقد من الزمان على الاقل؛ والأردن يتدحرج من أزمة الى أزمة؛ والعراق منشغل أساساً بالانتعاش وممزق بين الكتل المتخاصمة. ويقول نتان "في ضوء هذه التطورات، فإن كلَّ من تربى على رواية الدولة الصغيرة المحوطة بالأعداء ملزم بأن يسأل نفسه ما هو تأثير كل هذا على إسرائيل، وعلى مكانها في المنطقة، وعلى التهديدات التي تقف أمامها؟؛ فشيءٌ واحد يبدو مؤكداً الآن، هو أن الدول العربية لا ترى في إسرائيل تهديداً".

وإذا كانت الدول العربية لا ترى في إسرائيل تهديداً، فإن إسرائيل لا ترى أيضاً في الدول العربية تهديداً لها؛ فالأوضاع العربية الحالية تعمها الفوضى، فقد تم تدمير الجيش العراقي، وتم إشغال الجيش المصري في القضايا الداخلية، وتم إشغال سوريا بوضع صعب؛ وليبيا واليمن أصبحتا في خبر كان، والسودان مقسم ويبدو أن عملية التقسيم ستستمر، وقد اختفت الدول الأساسية من القيادة وعاد أمر الأمة إلى شبه أقزام؛ ولا يبدو أن هناك هدفاً تسعى الأمة إلى تحقيقه؛ فلم يتحقق للشباب كل ما كانوا يتمنونه من حياة الرفاهية أو حرية التعبير أو العمل، رغم مرور عقود من عقد أول اتفاق "سلام" بين العرب وإسرائيل، وسقوط حجة "لا صوت يعلو على صوت المعركة"، وهي العبارة التي تم استغلالها الاستغلال السيئ لإسكات أي صوت مطالب بأبسط الحقوق المشروعة، إلا أن المعارك توقفت، والرخاء لم يأت، بل ازدادت الأمور سوءاً، وهي مرشحة للازدياد، مما يطرح سؤالاً مهمًّا هو: أين يكمن الخلل..؟! هل ينقصنا الإخلاص أم الأمانة؟ هل فعلاً أن الدول العربية -وحكوماتها- دول حقيقية أم أنها وهمية؟!

بعد المتغيرات الحادثة في الوطن العربي فإن الأولوية الآن ليست محاربة إسرائيل، ولكن يجب أن تكون هناك حربٌ على أعداء الداخل، المتمثل في الفساد المستشري والأمية والجهل والفقر وكبت الحريات؛ بحيث يكون للإنسان العربي قيمة وكرامة.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة