الوحدة الوطنية

عــلي بن ســــالم كفيتـــــان

الوحدة الوطنية ليست شعاراً يتغنى به السياسيون في دهاليز السياسة، ولا يمتن به المتفيقهون في طريق بحثهم عن مزيد من المكاسب التي تأتي من تحت أطراف السجادة الحمراء، كما أنّها لا تنتمي لرائحة الطائفية المنتنة التي راج سوقها في بلدان الشرق الأوسط. الوحدة الوطنية هي ذلك الأمل الذي يُولد من رحم المُستحيل ويقتنع عبره الجميع بأنّهم شركاء في الآلام والتحديات قبل المكاسب. ويؤمن المجتمع بأكمله بأنه سيواجه عقبات ويجب عليه تخطيها بصبر وجلد.

كتب عليّ الزمن أن أشهد مطلع السبعينيات في بلدي المُحطَّم، عندما أتينا من الكهوف الحجرية لنتفاجأ بأن طائرات الهيلوكوبتر التي كنّا نخافها في وقتٍ سابق هي التي تلقي علينا كميات هائلة من الطعام وحتى الملابس والمؤن، كنّا نجد جواني الأرز والسكر على أغصان الأشجار ونجمعها عوضًا عن الفطر لنأتي في المساء مُحملين بالخيرات ونحن أطفال صغار لا نعرف ماذا يحصل وكيف أن السماء أصبحت تُمطر كل شيء، كيف أصبحنا نحب الهيلوكوبتر المدججة بالمدافع، أتدرون لماذا؟ لأنّ الذي يوجهها هو رجل يحس بالفقر والحرمان الذي عاشه النَّاس لعقود من الزمن وعمل جاهداً لدحر هذا الظلم المُجتمعي العظيم (كان هذا هو الدرس الأول في الوحدة الوطنية الذي تعلمناه ولن ننساه مهما تغيَّر الزمن).

في صباح اليوم التالي توافد النَّاس من كهوفهم إلى مكان مُنبسط نصبت فيه خيمة وفيها طبيب غربي وممرضتان لطيفتان لقد تمّ علاج جروحي وحصلت على الدواء للمرة الأولى في عُمري وكان هناك صف طويل من كبار السن الذين يُعانون من السل الذي أنهك أجسادهم ونساء حوامل لا تكاد ترى لهن معالم سوى أنهن بقايا إنسان مُكابر في زمن الحرمان، ومن ناحية أخرى جلبوا شيخاً مسناً به جرح غائر في رجله ظل يُعاني منه طوال حياته وفي لحظات تم تجبيره ورأيته بأم عيني يخر ساجدًا شكرًا لله ويدعو للسلطان الجديد، ظل هذا المستشفى الميداني عدة أشهر حتى دخل الخريف وأصبح الطبيب يُجيد اللهجة المحلية ويفضل شرب حليب الإبل وكُنّا نلعب معه في المساء كرة القدم التي كانت عبارة عن كومة من الأقمشة الملفوفة على قطعة من الخشب (كان هذا هو الدرس الثاني في الوحدة الوطنية).

نسي الجميع ثاراته القديمة مهما كانت مؤلمة وداسوا على زمن الجهل والحرمان والمُعادلة الصعبة كانت هي كيفية إقناع مجتمع قبلي أُمي بالحرب من أجل الانتصار في ظروف حرجة يمثلون هم طرفي النزاع فيها، في إحدى المساءات حللت ضيفاً على معسكر قوات الفرق في منطقتي الذي نصبت في وسطه خيمة كانت هي المدرسة وكان عدد الطلبة لا يفوق العشرة وفي المساء كان الأستاذ أحمد عطية رحمه الله (مصري الجنسية) يُعلم جنود الفرقة محو الأمية رغم كبر سنهم كانوا مُتلهفين للتعليم الذي حرموا منه وقدر لهم أن يرزحوا في عالم الجهل ومعهم أجيال كثيرة مضت.

في تلك المرحلة كان هناك أفراد من الجيش النظامي يأتوننا من مختلف أرجاء الوطن فقد معظمهم زهرة شبابه مدافعًا عن وحدة وطنه ولم نسألهم لماذا أتيتم ولا لأيّ حزب أو مذهب تنتمون كان الجميع صفًا واحداً في أرض المعركة الوطنية والأكثر حيرة في نفسي أنّ من هم في الطرف الآخر من نفس جلدتنا كيف امتلكنا الشجاعة لمواجهتهم رغم أنّ النتائج كانت مؤلمة وليس هناك ما هو أغلى على الشخص من فقدانه لحياته وقد رأيت بأم عيني كم كانت الأرواح رخيصة تلك الأيام لأجل الوطن (وكان هذا هو الدرس الثالث لي في الوحدة الوطنية).

مرَّت الأيام وصار للنّاس تجمعات سكانية في المناطق المنبسطة بعد أن تبدَّد الخوف تركوا الكهوف المُظلمة فصار لكل منطقة عيادة صحية وطبيب مُقيم كما غادرنا خيمتنا إلى مبنى ثابت خارج المعسكر وزاد عدد الطلبة وبعد سنوات وصلنا الطريق المُعبد الذي يربطنا بحاضرة الجنوب (صلالة) بعد أن تمّ هدم السور الذي كان يفصلنا عنها لعدة عقود.

واحتفلنا في عام 1975 بعيد النصر وخطب السلطان خطبة مؤثرة أثنى فيها على القوات المسلحة وخاصة قوات الفرق الباسلة وشكر جلالته أبناء الأرياف وكنت شاهدًا على دموع النّاس المُتحلقين خلف مذياع القرية أثناء استماعهم لصوت الرجل الذي جلب الحرية والكرامة لعُمان.

هذه هي الوحدة الوطنية التي رسمها قابوس في قلوبنا ولا زلنا مولعين بها وسنعلمها لأبنائنا بل وسنطلُب منهم أن ينقلوها للأجيال القادمة لأنّها هي الضمانة الوحيدة للمستقبل.

استودعتكم الله موعدنا يتجدد معكم بإذن الله.

حفظ الله عمان وحفظ جلالة السلطان.

[email protected]