د. سيف المعمري
علينا أن نعترف أننا لا نعرف عن إيران أكثر من الأخبار السياسية المرتبطة ببرنامجها النووي، وصراعها مع من كانت تطلق عليه "الشيطان الأكبر"، وعلاقتها "بحزب الله"، ومزاعم عن دورها في الصراعات التي تجري في "اليمن"، و"سوريا"، و"العراق"، مما يعكس لنا قوة كبيرة تتمتع بها هذه الدولة التي يفصلنا عنها خليج تسميه هي "بالفارسي"، ونسميه نحن "بالعربي"، مما يفصل بين عالمين وهويّتين مختلفتين، ومن خلال متابعتي للشأن الإيراني منذ سنوات كان يشغلني سؤال مهم له ارتباط بالجوانب السياسية والعسكريّة، وهو هل نجاح إيران في تدعيم مقومات قوتها سببه وجود نظام تعليمي متطور؟ وهل نجاحها في إرساء نظام ديمقراطي يسمح بالتداول السلمي للسلطة يدعمه أيضا نظام تعليمي ديمقراطي؟
نطرح هذه الأسئلة عن إيران وليس عن كوريا الجنوبية وفنلندا واليابان وغيرها من البلدان المتقدمة تعليميا لمجموعة من الأسباب يأتي في مقدمتها أنّها الجارة الكبرى للدول العربية التي نجحت في الحفاظ على استقرارها في ظل الفوضى التي تضرب الدول العربية من حولها، أمّا السبب الثاني فيتعلق بقدرة هذه الدولة على الحفاظ على عملية سياسية انتخابية وتداول دوري للسلطة في وقت فشلت فيه الدول العربية في تحقيق ذك، وثالثا هو نجاح إيران في إرساء دعائم صناعات متعددة يأتي في مقدمتها الصناعات العسكرية وصناعة السيارات وصناعات الطاقة البديلة حيث نجحت في تحويل الغاز إلى سوائل بسبب تطويرها تكنولوجيا التحويل محلياً في عام 2004، وافتتاح أول محطات طاقة الرياح والطاقة الحرارية الأرضيّة، وأول محطة للطاقة الشمسيّة الحرارية والتي تأتي عبر الإنترنت في عام 2009، وتشغيل أول محطة إيرانية للطاقة النووية في بوشهر في عام 2011، كما نجحت إيران في احتلال المركز الثاني عشر في قائمة الدول المصنعة للسيّارات في عام 2009 وفقاً لتقرير صادر عن المنظمة الدولية (OICA) لمصنعي السيارات، ورابعها، هو قدرة هذه الدولة في الحفاظ على هويّتها ولغتها القومية دون أن يعيقها ذلك من الاستفادة من منجزات العصر، في وقت فتحت فيه الدول العربية والخليجية بالذات تعليمها لسيطرة اللغة الإنجليزية دون أن يقود ذلك إلى منحها ميزة إضافيّة إلا منع سكانها من التوظف في قطاعات يشترط فيها إجادة اللغة الإنجليزية، وبالتالي علينا ألا نذهب إلى الدول البعيدة.. نحتاج إلى أن نفهم التعليم في القوى التاريخية الكبرى التي تؤثر على الوطن العربي وهي إيران وإسرائيل وتركيا، وهي الدول الأكثر استقرارًا في المنطقة في وقت يضطرب فيه الوطن العربي، فهل ما يجري له علاقة بالتعليم أم أنّ أنظمة التعليم في هذه الدول لا تختلف عن التعليم العربي في ضعف مخرجاتها وسيطرة المعلم، وهشاشة المحتوى؟
إنّ البنية السكانية لإيران والتي يتزايد فيها عدد صغار السن (0-14) حيث تصل نسبتهم إلى (27%)، وتصل فيها نسبة السكان الذين تتراوح أعمارهم من (15-64%) إلى (70.8%) من مجموع السكان الذين وصلهم عددهم إلى (76) مليونا حسب إحصاءات تعود إلى عام 2012م، تحتم الاهتمام بالتعليم والارتقاء بجودته إلا أننا لا نجد أي مراتب متقدمة يحتلها النظام التربوي الإيراني في سلم التصنيفات العالمية، ولا نعرف إلا النزر اليسير عن الوضع التعليمي في هذه الجمهورية، التي نجد أنّ تعليمها كان ذا صبغة وهيمنة غربية في المنطلقات والمحتوى، ومن ثمّ أصبح ذا منطلقات إسلامية بعد الثور،ة حيث كان السعي إلى إنجاز عملية عرفت بـ "أسلمة المناهج" من أجل تربية شخصية تتفق مع مبادئ الجمهورية بدلا من تربية شخصية منقسمة على نفسها تدرس مبادئ إسلامية تحكم الاقتصاد وغيره من مجالات الحياة إلا أنها تعيش واقعا مختلفا في الحياة المدنية ربما ليس بالضرورة أن يخضع لهذه المبادئ، ويبدو أنّ هناك محاولة منذ عدة سنوات إلى تطوير النظام التعليمي حيث أعدت وثيقة عرفت بوثيقة "التحول البنيوي في التربية والتعليم" صودق عليها في عام (2010) حيث يركز التعليم في أهدافه الرئيسية على هدف إيديولوجي مذهبي وهو "تكوين مواطن صالح مؤمن بالإسلام، وعالم بأقوال الأئمة المعصومين، وقادر على حماية المبادئ الإسلامية، وتطوير القيم الثقافية والخلقية للأمة الإيرانية"، ولكن لا يعني ذلك أن المنهج الإيراني يركز فقط على التلقين الديني المذهبي ولكن هناك تركيز على كثير من الجوانب التي تساعد على تدعيم القدرات الذاتية للأمة الإيرانية لاسيما في ظل ظروف الصراع السياسي التي عاشتها إيران - ولا تزال- مع الآخر سواء كان العربي، أو السني، أو الغربي والذي يتطلب منها بناء قدرات بشرية لديها قمتين الأولى الولاء لمبادئ الجمهورية والثاني الإنتاج، ولذلك تركز المناهج على خماسية قيم هي: الإيمان والعلم والعمل والأخلاق، ويتم تعزيز من خلال تعلم مجالات منهجيّة موجودة في معظم الأنظمة التعليميّة، ومن الجوانب المميزة في ربط المدرسة بالمجتمع في إيران هو منح المحافظات والمناطق والمدارس 50 ساعة من إجمالي الساعات التدريسية لكي توظفها بما يتناسب مع ظروف البيئة المحيطة ومقتضياتها، واستحدث النظام التربوي حاليا منهجا يركز على مهارات التحليل السياسي عند الفئة العمرية من (12-17 سنة) من أجل حمايتهم من التأثير الفكري للجماعات المنحرفة أو الدعاية الإعلامية للقنوات الفضائية، أو المؤامرات العدائية ضد الجمهورية، مما يعكس أنّ المدرسة دائما هي أداة فعالة لمواجهة الأخطار المتغيرة التي تواجهها إيران، ويتم في المرحلة الثانوية تقديم مسارات متعددة للطلبة تتوزع بين نظرية وفني ومهني وتطبيقي وما هو متاح من بيانات لم يمكننا من تقديم نسب تمثيل هذه المسارات في النظام التربوي.
لم أجد في إيران ذلك الهلع الذي أصاب الدول العربية من موضوع ترتيبها في أشهر التصنيفات العالمية التي تقيس كفاءة النظام التعليمي، ولم أجد دراسات مشتركة مع البنك الدولي لتقييم النظام التربوي، ولم أجد تعاونا مع أي شركة من شركات المعايير، ولا يوجد خبراء من ذوي "الشعر الأشقر" يعملون للارتقاء بالنظام التربوي، ولم أجد ذلك التقدم الرقمي في "تسيير النظام التعليمي"، ولم أجد لديهم ذلك العدد من المؤتمرات الدولية للارتقاء بالنظام التعليمي، لم أجد لديهم ذلك العدد من المدارس الخاصة، لم أجد لديهم تلك التعاقدات الكبيرة مع بيوت الخبرة الغربية، لم أجد لديهم ذلك التسابق لنيل شهادات منظمات "الاعتماد"، ومع ذلك لا نجد أن تعليم الضفة العربية من الخليج أفضل من تعليم الضفة الفارسية، بل العكس توجد مؤشرات عالمية على ضعف أنظمة الضفة العربية بينما لا توجد مؤشرات حتى الآن على ضعف نظام تعليم الضفة الفارسية.
ونعود مرة أخرى إلى طرح السؤالين اللذين طرحا في المقدمة وهما: هل نجاح إيران في تدعيم مقومات قوتها سببه وجود نظام تعليمي متطور؟ وهل نجاحها في إرساء نظام ديمقراطي يسمح بالتداول السلمي للسلطة يدعمه أيضا نظام تعليمي ديمقراطي؟ لا تتوافر أية بيانات على قوة النظام التربوي الإيراني كما لا تتوافر أية مؤشرات على ديمقراطيته وإن كان يتيح فرص متساوية للذكور والإناث، ولا تتوافر مؤشرات على طريقة إدارة المدرسة الإيرانية ولا عن النمط التدريسي لدى معلميها ولكن يمكن أن نستنتج أنّه لا يخرج عن التلقين الذي يمارس في كثير من الأنظمة التربوية العربية، لاسيما وأنّ الهدف هو إعداد مواطن بمواصفات وحدود خاصة تتلاءم وفكر الثورة الإيرانية ومبادئها، ولا تتوافر مؤشرات عن استجابات النظام التعليمي لمتطلبات الأقليات القومية فإيران بلد متنوع الأعراق حيث يشكل الفرس 51%، والأتراك 24%، والعرب 7,7%، والأكراد 7%، ويصل عدد اللغات التي يتكلمها السكان إلى 110 لغة، وبالتالي يقودنا ذلك إلى استنتاج نقطة جدا مهمّة وهي أنّ الإيمان بضرورة التفوق في محيط عدائي ربما يقود إلى تفوق دولة وإن لم يكن لديها نظام تربوي متفوق عالميًا، وأنّ بناء منهج في تربة محلية أفضل من استيراد رؤى وأفكار مجزئة غريبة على البيئة المحلية، مما يعيق كفاءة المنهج وفاعليته، ويظل النظام التربوي الإيراني حقلا خصبا للدراسة والاستقصاء، فهناك الكثير مما يمكن أن يُتعلم ويستفاد منه.