عائشة البلوشية
عندما يتسنى للبعض منّا زيارة القرى الحجرية في جبال الحجر الشرقي والغربي في شمال السلطنة، أو البيوت المبنية في جبال القرا في جنوب السلطنة، أو تلك المدافن ذات الهندسة الفريدة، أو الحصون والقلاع المنتشرة في ربوع بلادنا الجميلة، يتملكه الذهول من تطويع الإنسان لما رزقه الله تعالى من مكونات الطبيعة، وتقف حائرا ومتسائلا كيف تسنى للبشر الوصول إلى بعض من تلك البقاع التي تكاد مقطوعة ولا يمكن الوصول إليها إلا بشق الأنفس، وتطرق محدثا نفسك أو من يقف إلى جوارك: لنسلم بأن الإنسان وصل إلى تلك البقعة الشاهقة أو المنعزلة ولكن السؤال الذي تحتار إجابته هو كيفية وصول مواد البناء إلى هناك!!، وخصوصا إذا ما صافحت عينيك تلك الحصون القائمة على رؤوس الصخور الملساء المستقلة، وتعمل العقل محاولا الوصول إلى كيفية وصول من قام بالبناء إلى أعلى الصخرة والتي تشمخ كمسلة فرعونية، وتترك البقعة أو المكان وأنت خاوي الكفين، سوى من إجابة واحدة "قوة الإرادة تصنع المعجزات"..
وصلني أحد مقاطع الفيديو عبر تطبيق ال "واتس آب" بعنوان (معجزات الهندسة) لمشروعين رائعين، ينحبس النفس لجمال الأفكار فيهما، ولروعة التنفيذ، الأول كان عبارة عن هوة سحيقة العمق والاتساع في الأرض، ظلت كما هي طوال الفترة ما بين تكونها وحتى استلمها مبضع جراحي الهندسة، فأبدعوا في عملية التجميل التي جاءت متخطية تقنية ال face lift التي تحدث على أجيال المركبات التي تغير شكلها لتجذب محبي اقتنائها، ولكن العملية الجراحية التي أجريت لتلك الحفرة العملاقة كانت تحمل المزج بين كل تفاصيل الجمال والعلم والروعة والذكاء التقني، فقد قاموا بتحويلها إلى فندق فخم يمتد من أعلى الحفرة ويصل حتى القاع، وتمتد أمامه بحيرة رائعة الجمال، وعندما شاهدت مراحل تطور المشروع، ذهلت لما رأيت من جهد وإصرار ليخرج المشروع الأول من نوعه في العالم، فالبحيرة والشلال الشاهق العلو اصطناعيين، ولكنها كانت كفيلة بتحول تلك الهوة العملاقة من صخر مهمل، ومكان يتجنبه البشر حتى لا يقعون فريسة السقوط فيها، إلى معجزة هندسية شاهدة على استخدام العقل البشري في عمارة الأرض، ثم انتقل الفيديو إلى المشروع الثاني وهو عبارة عن كهف تحت الأرض تم تحويله إلى نزل جميل، يبعد القاطن فيه عن صخب الحياة وضوضائها، فتذكرت الفلاسفة والعلماء والمتحنثين، الذين عبروا بشخصياتهم ورؤاهم عصور التأريخ، وهم يلوذون بالكهوف الصخرية والرسوبية والكرستالية في خلواتهم، فتحول باطن الأرض من خواء تلجأ إليه الخافيش والهوام، إلى ملجأ للراحة والهدوء والاسترخاء لبني البشر، ليخلو بنفسه هناك من أراد السكينة لفترة من الوقت، ما أروع الإنسان عندما يعود إلى حقيقة خلقه، يصبح باحثًا عن كل ما من شأنه رفاهية بني الإنسان دون ضرر أو ضرار...
كنت مع والدي -رزقني الله بره- وهو يقوم بعمل المونتاج لفيلم من تصويره بكاميرته الطائرة بتقنية ال 4K يعكف عليه ليتأكد من جمال زاوية كل لقطة فيه، وأنا المتخمة عشقاً بكل جمال، كنت أرقب تلك اللقطات المذهلة، أخذت بذلك السحر الطبيعي الخلاب، فأتت لقطة لحفرة في جبال ظفار بجنوب السلطنة، وكانت الفتحة تظهر من ذلك العلو على شكل قلب، فاستغربت لذلك جداً، فهذا البعد الثالث لتلك الفتحة المسورة بسياج حتى لا تقع النوق التي تجوب المرعى بها، جعلها واضحة المعالم والحدود، ثم انتقلت اللقطات إلى مدافن "كبيكب" الأثرية بولاية قريات، والفتحة الواضحة في رأس ذلك الجبل توصل بصيص أشعة الشمس إلى كهف "مجلس الجن"، والذي يعتبر ثالث أكبر كهف في العالم، ومع جمال الموسيقى التي تنساب بانسياب تيار اللقطات الهادىء الذي يأسر المشاهد ليتمنى من صميم قلبه أن يطول ذلك السحر حتى يقضي على آخر نقاط السلبية في النفس، فتذكرت حينها "معجزات الهندسة"، وتعجبت من وجود هذه المعجزات الطبيعية المذهلة الجمال لدينا، وعدم التفكير في استغلال العقول البشرية، بحيث -على سبيل المثال لا الحصر- تقام مسابقة سنوية أو كل ثلاث سنوات لمثل هذه المواقع، لطلاب الهندسة داخل السلطنة وخارجها، ليتقدموا برؤية هندسية إبداعية مدروسة لكل موقع جغرافي، ويتم اختيار أفضل الأفكار وعرضها على القطاع الخاص للتنفيذ، ويحصل الطالب أو مجموعة الطلاب أصحاب المشروع الفائز على عقود عمل ويحصلون على أجرهم الذي تقدره الجهة المعنية، ويستمر المهندس متابعا لتنفيذ المشروع حتى ينتهي، مكتسبا بذلك الخبرة، وقد عاش تجربة ستؤثر حتما على روح الإبداع لديه مدى حياته، وأرجو أن تتبنى بعض الجهات هذه الأفكار، كالمجلس الأعلى للتخطيط أو المبادرة الأخيرة الرائدة لصندوق الاحتياطي العام، فقد أجمع علماء المال والأعمال بأن هذه الألفية هي ألفية التنافس والتسابق في الجهد والأفكار...
أسلوب "الكرة المتدحرجة" في التفكير، سيعطي لأي جهة تتبنى التكامل بين شباب الأفكار وكهولة الخبرة الكثير من الإنتاج الإبداعي، فالتقاعد لا يعني انتهاء دور أي منا في الحياة، بل هي مرحلة مهمة جدا من العطاء الفكري ومشاركة المجتمع بالخبرة التي اكتسبها في الحياة، والتقاعد لا يقتصر على البشر بل إن الأماكن والآلات وغيرها تحال إلى التقاعد، وربما منجم الملح في رومانيا أبرز مثال على ذلك، فبعد إحالته إلى التقاعد، تسابقت الأفكار في كيفية استغلاله ليتم تحويله إلى منتزه ترفيهي يجذب الآلاف من الزوار ويدر الملايين من الدولارات على الخزينة العامة؛ لم ينته زمن المعجزات، بل هو حاضر أمامنا ينتظر نفض الغبار عن الأسطح التي يختبئ تحتها..
توقيع:
"لا تسقني كأس الحياة بذلة.. بل فاسقني بالعز كأس الحنظل.
كأس الحياة بالذل كجهنم.. وجهنم بالعز أطيب منزل"
عنترة بن شداد العبسي،،،