الاستقرار الاجتماعي .. حاكم لكل التحولات في بلادنا "جدلية الوعي واللاوعي"

د.عبد الله عبد الرزاق باحجاج

من الأهمية الآنية العاجلة، استدعاء حاكمية أية تطور أو تحول أو تغير في بلادنا، وذلك للزوم ضبط الأفعال وردود الأفعال بعد أن لاحظنا جنوحاً نحو الاستعانة بخبراء من صندوق النقد الدولي، وبعد بروز وبصورة مفاجئة تكنوقراطيين قدموا حلولاً تنم عن قصور في فهم الحمولة الاجتماعية، وثقلها وتموقعها في سلم الأولويات السياسية، وهي أي الحلول تُحطم جوهر البعد الاجتماعي، وتدوس عليه بوعي الحسابات المالية المُجردة واللاوعي بالحمولة الاجتماعية للدولة العمانية، كالمساس بالمرتبات بعد تجميدها، ووقف الترقيات والتوظيف وتصاعد الأعباء المالية عن طريق رفع سقوف الرسوم أو الضرائب أو استحداث ضرائب جديدة، واعتبارها حتمية لمواجهة تداعيات الأزمة الاقتصادية.

وذلك تحول (360%) في الفكر والتطبيق معًا، يتزامن معه ما يُقال على نطاق نخبوي محدود، عن عدم تنفيذ خطة التنمية الخمسية التاسعة حتى الآن رغم مرور أكثر من خمسة أشهر، إذن، كيف نتطلع لتعافي اقتصادنا؟ وكيف نُريد صناعة مصادر دخل جديدة وبديلة للنفط في ظل عدم تنفيذ الخطة؟ جل التفكير ينصب الآن على معالجة الأزمة النفطية من خلال سياسات مالية واقتصادية تمس أساسيات البنية الاجتماعية بماهية تلك الثنائية التوعوية - الوعي واللاوعي- وهنا مكامن الخطر، إلى متى ستتحمل هذه البنية الاجتماعية الأحمال والأثقال المتواصلة والمتصاعدة والمتعددة؟ تغيب هذه القضايا عن رجال الاقتصاد، بعضهم باللاوعي، وآخرين بوعي، لكن مصالحهم الاقتصادية تدفع بهم إلى تجنب الإضرار بها، لأنّهم يعتبرونها كعكعة سنوية مُقررة لهم في كل موازنة جديدة، خاصة وأنّهم في موقع صناعة القرار، وللأسف يشاركهم الآن بعض التكنوقراط من اقتصاديينا، محرك وعيهم الأرقام المجردة الخالية من مضامينها الاجتماعية،إذن، ما هو الحل؟ سنؤجل الإجابة عليه ربما إلى المقال المقبل، فقضية الوعي واللاوعي، تشغلنا كثيراً، ولابد من التَّصدي لها بكل موضوعية وشفافية لعلنا ننجح في استدراك القصور في الوعي بالحمولة الاجتماعية، فهذا الغياب، قد جعل مرئيات التكنوقراط تتلاقى مع مرئيات صندوق النقد الدولي في ظل صمتنا الحكومي تجاه بعض مرئيات هذه المؤسسة العالمية، مثل ضريبة القيمة المضافة، وهذا ما يدعو للدهشة، ويجعلنا نُخاطب هذا الوعي لانتشال من نُقطة التلاقي المشترك، والمثير للشك والريبة، من هنا يمكن القول، إنّ أي نمو اقتصادي مستهدف أو تبني أية سياسة مالية أو اقتصادية لا تساهم في ديمومة الاستقرار الاجتماعي في بلادنا، هي مرفوضة سياسيًا، مهما قدمت في أطباق من ذهب، ويفترض من كل شخصية اقتصادية حكومية أو تكنوقراطية أن تعلم يقينا بحاكمية التطورات الاقتصادية في بلادنا، وهو الاستقرار الاجتماعي، ويُشكل كذلك مرجعية لأية عملية عصف ذهني تبحث عن حلول لأية أزمة راهنة أو مُقبلة، وهذه الحاكمية والمرجعية مبنية على فهم أصيل لواقع الحمولة الاجتماعية، وتجذرها في بنية الدولة، وقد كانت حاضرة بقوة في فكر عاهل البلاد -حفظه الله - منذ يوم انطلاقة نهضتنا المباركة 1970، وذلك عندما ربط الشرعية السياسة الجديدة بالشرعية الاجتماعية ورضاها بل وإسعادها، ولو تتبعنا كل خطبه السياسية، فستتضح لنا الحاكمية والمرجعية الاجتماعية واضحة، بدءًا من المفردات نفسها مثل، شعبي العزيز، وكذلك، أيها المواطنون، وانتهاءً بالمضامين السياسية مثل، سأجعلكم تعيشون سعداء لمستقبل أفضل، وتأتي كل توجيهاته داعمة لهذا النهج، كالإصلاحات الشاملة عام 2011، وتغيير النخب الوزارية تناغماً وانسجامًا مع رغبات وتطلعات المواطنين، وهذا وعي سياسي أصيل من زعيم ومُنظر تاريخي سبق قادة زمانه، لكن، تظل إشكاليتنا تكمن في افتقارنا لقادة تنفيذيين يترجمون تنظيرات الزعيم على الأرض، فدولة السعادة كانت - بنص أول خطاب سامٍ - من أفكار زعيم عُمان ومنذ قبل (45) عامًا، والآن يتبناها محيطنا الإقليمي عبر استحداث وزارة خاصة للسعادة أو هيئة خاصة للترفيه، كل من يقر مبدأ المساس بالمرتبات أو يعمل على إطالة أمد وقف التوظيف أو يبحث عن الحلول داخل المنطقة الاجتماعية فقط هو هنا كمن يُشعل النيران فيها، بينما مصالحهم الاقتصادية في حصن حصين، وفي ثراء مُتصاعد سنوي مضمون، فالمساس بالمرتبات خط أحمر، واستحداث ضرائب تأكل المُرتبات كذلك خط أحمر، وجمود المرتبات ووقف التوظيف .. ينبغي أن لا يتأخر طويلاً، لماذا ؟ لأنّها تمس الاستقرار الاجتماعي، وبالتالي، فإنّ الفريق الاقتصادي الذي يقود مرحلة التنفيذ ينبغي أن يُعيد النظر في منظور رؤيته للحل، أي إعادة توجيه بوصلة التفكير في ظل تلك الخطوط الحمراء المُقدسة، عندئذ، سيرى حلولاً في تقليل حجم الاتفاق العام نفسه، ولن يقدموا عليه، لأنّ مصالحه الكبيرة ستتضرر قليلاً، فهل نُسلمهم الملف الاقتصادي أم نحتاج لشراكة سياسية لديها وعي شمولي بحجم المصالح الشاملة؟ وسيرى الحل كذلك في الجهاز الحكومي الثقيل والمترهل - بشهادة معالي الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية - ولن يمس هذا الجهاز لأنّ بقاء مصالح بعضهم متوقفة على تعدد وتنوع هذا الجهاز، وسيرى الحل كذلك في تحميل طبقة الأثرياء قليلاً من الأعباء المالية بدلاً من تحميل المواطنين من لقمة عيشهم وتربية أبنائهم، فقد كان ثراؤهم الفاحش من خزينة الدولة - هبات منح حوافز تشجيع ...خطط سنوية وخمسية وطويلة الأجل - ولن يقدموا على ذلك، لأنّ حب الذات قد طغت، ووصل بها الأمر إلى مستوى وأد أية مصلحة عامة تتعارض مع مصالحهم الشخصية، وتحميل المجتمع تبعات كل الأزمة، وسيرى الحل المستدام الضامن للحمولة الاجتماعية في صناعة الخمسة قطاعات المُختارة في الخطة الخمسية، وسيرى أن المدى الزمني للخطة كافياً للصناعة .. هذه رؤية نطل من خلالها على قضية تعارض المصالح في بلادنا في ظل الأزمات خصوصاً، والمدهش كذلك، أنّ الفكر بثنائيته سالفة الذكر قد غلق على نفسه في رؤية سوداوية، حبس فكره فيها، ولم ينفتح على مستجدات الأزمة النفطية، فتجاهل وصول الأسعار النفطية إلى ما فوق (49) دولارًا للبرميل، وتجاهل المؤشرات والتحليلات الصادرة من مُنظمات ومُؤسسات متخصصة ذات مصداقية وصدقية عالية، تشير إلى قرب نهاية مرحلة رعب الفائض في الإنتاج العالمي، كل هذا يتم تجاهله، وكأنّ بلادنا لا تزال في مرحلة الصدمة الأولى، والرعب من نزول الأسعار إلى (20) دولارًا، وهو أصلا رعب مصطنع من إبداعات صندوق النقد الدولي حتى يدخل دول الخليج تحت ضغوطات نفسية كبيرة لتحقيق أجندة سياسية لقوى كبرى لتنسجم مع مرحلة المتغيرات الإقليمية والعالمية الجديدة، مما يظهر لنا فكر فريقنا الاقتصادي وبعض التكنوقراط في واد التطورات الجديدة في واد آخر، كان ينبغي تبني لغة التفاؤل المشوب بالحذر، للإبقاء على الأمل الاجتماعي بدلاً من العمل على تحطيمه، كان ينبغي العمل بكل هدوء على تنفيذ الخطة الخمسية الجديدة .

كان ينبغي المطالبة بتقييم السياسات والإجراءات الحكومية المُتَّخذة منذ بداية العام 2016، كان ينبغي الدعوة إلى الوقوف الآن وقفة تاريخية للإجابة على تساؤل استراتيجي عاجل، وهو هل السياسات والإجراءات الراهنة والمُقبلة ستودي إلى المحافظة على الاستقرار الاجتماعي أم إلى المساس به مستقبلا؟ هذا هو المسار الطبيعي للتفكير بدلاً من تخويف المجتمع بالضرائب وبخفض المرتبات، مثل هذه الأطروحات وطرح التنازل عن المُخصصات المالية الذي عرضه أحد أعضاء مجلس الدولة تعكس لنا عُمق الأزمة الفكرية، وكيف أصبحنا نستهدف قضايا مصيرية، نلتقي في استهدافها مع قوى أجنبية، هذه حقيقة يجهلها الكثير من الداخل، لجهله بما يخطط من الخارج للداخل، فهل يُساهم الداخل باللاوعي مع الخارج الواعي في تدمير قوته الداخلية؟ اعترافات أوباما في كلمة وداعه للرئاسة تكشف لنا فعلاً الاستهداف الأمريكي الجديد للمجتمعات الخليجية، وهو تفقيرها، لماذا ؟ ولماذا الآن بالذات؟ وما هي أدوات تنفيذ السياسية الأمريكية الجديدة في الخليج؟ سيكون مقالنا يوم الإثنين المُقبل بمشيئة الله، لكن أي شريحة اجتماعية مستهدفة؟ إنّها الطبقة الوسطي التي تعمل دولنا الخليجية على تفقيرها بمثل تلك السياسات والإجراءات، وهي بذلك تساهم باللاوعي في تدمير هذه الطبقة، وهي الطبقة التي يعول عليها للحفاظ على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي لأية دولة، وهي القوة التي تحمل هم الدين والتاريخ ومنظومة العادات والتقاليد، أي هي صمام الأمان لكل بلد، لذلك هي مستهدفة الآن من الخارج، وقد يتداخل المحيط الإقليمي مع الخارج باللاوعي في استهدافه للداخل، وللأسف سياساتنا المالية والاقتصادية بوعي الحسابات المجردة وباللاوعي لأبعادها المجتمعية تساعد الخارج على تحقيق أجندته ؟ ما الحل، سنؤجله كذلك للمقال المقبل..

تعليق عبر الفيس بوك