مواقف خالدة في ذاكرة معتقة (10)

عـلي بن سالم كفيتان

يقول محمد دخل الخريف بغيماته الندية الساحرة التي تداعب أجسادنا المنهكة من عناء السنة المجدبة الجميع بات مستبشرا بزخّات المطر وبانتظار تباشير العشب الأخضر القادم من الجنة، الناس يضبطون الوقت ويحسبون الساعات فهذا هو النجم الأخير من الصيف وفي منتصفه يسقط المطر ويأتي الخير ويذهب القحط، ويقول أبي علينا هذا العام أن نوفي ما علينا من ديون لتاجر السردين وكذلك لدكان المؤونة، نزل إبي إلى المدينة وفي المساء قدم معه الضيوف؛ أسرة العم حافظ.. إنّه تاجر السردين فرحبنا بهم أجمل ترحيب وشيّدنا لهم بيتا في طرف الكهف، وخصص لهم الوالد بقرتين حلوبين تدران حليبا كثيرا كي يشربوا منهما وما زاد عن حاجتهم ينتج منه السمن، وكانت هذه هي الطريق التقليدية لإيفاء الدين في تلك الفترة كما أخبرني محمد.

العم حافظ وبعد عدة أيام انضم إليه العم إبراهيم كانوا ضيوفنا طوال الخريف رجلان عجوزان طيبان قليلا الحركة ساهما وزوجاتهم الطيبات في تعليمنا وتعليم النساء سور القرآن الكريم وتعاليم الصلاة والصوم وغيرها من الواجبات الدينية، وكان لهم الفضل العظيم في هذا المجال أثابهم الله عنا خير، لكن بناتهم وأولادهم لا يحبذون المكوث في الريف فهم يكرهون الضباب والمطر والجو الموحل وتكاثر الذباب ولا نلومهم، فهم نشأوا وترعرعوا في أكناف المدينة بعيدا عن حياة الكهوف والمطر والظلام، ليسوا متعودين على ثغاء البقر ورائحة الروث، ومع ذلك عندما يغادروننا بعد فصل الصرب محملين حميرهم وجمالهم بجواني الذرة والفاصوليا وتنك السمن الخرفي يبكون جميعا لفراقنا رحم الله تلك الحياة البسيطة ورحم الله هؤلاء الناس الطيبين.

علمت بعد ذلك أنّ لي أخا وأختا يكبراني، فأنا لا زلت صغيرا وذاكرتي لا زالت تتشكل.. سلمى أختي طيبتها وحنانها ليس له حدود، هي النور الذي رأيت به الدنيا، كانت تحبني وتحنو عليّ حتى أنّها لا تأكل شيئا إلا وقسمت لي نصفه مهما صغر أو كبر أكانت عندي أو بعيدة عني، ففي المساء عندما تجلب العجول من المرعى بجسمها الشاحب المبتل بالمطر أنتظرها عند أطراف الكهف لكي أحصل على هديتي من طرف شيلتها المعلقة في عنقها، إنّها حبات التين البري وغيرها من النعم التي تجلبها سلمى. أختي تجلب على ظهرها حمولة ثقيلة من العشب الأخضر لصغار العجول كذلك، وفي أحيان كثيرة تذهب لجلب الماء في قرب الجلد من مكان بعيد؛ لأنّ أمي وضعت أخي المزعج قبل عدة أسابيع ولا تستطيع مفارقة الكهف لكي ترعى الرضيع الجديد (محاد).

أمّا أخي مسلم فهو في سن سلمى تقريبًا وكأنّهما توأمين لم أر جمالهما في أحد رغم صعوبة الحياة وشظف العيش يتراحمان ويقومان بكل واجبات البيت، لا تسمع لهم صوتا، جدتي هي أمهما فأنا لم أعرف لهم غيرها وينادونها بأمي.. أمومة واحترام لا حدود لهما مطلقا، لا أخفيكم أنّ أخي هذه مشاكس ويحب تجريب كل شيء يتسلق الأشجار حتى يختفي ولا نراه أنا وسلمى ثم تبكي حتى ينزل وهو يضحك من خوفها عليه، في يوم من الأيام أخذني ومعنا أبريق وصفرية إلى الوادي وعلى ظهره حبل وقال لي لا تخبر سلمي ولكنني أخبرتها خوفا من مغامراته غير التقليدية، ذهبنا إلى قاع الوادي وهناك أشار إلى أعلى الجرف، وقال: هل ترى شيئا؟ قلت له ذباب يدخل ويخرج من تلك الفتحة، ضحك وقال: إنّه نحل العسل ونحن اليوم سنقوم باستخراج العسل من ذلك المكان.

جلست خائفًا وتوسلت إليه أن يتراجع عن رأيه؛ ولكنّه أبى، وصعدنا لأعلى الجرف وطوال الطريق أترجاه وأنا أبكي ألا يفعل، ولكنّه كان يضحك ويقول لا تخف عندما تطعم العسل ستنسى الخطر، وهنا بدأ بطقوس جامعي العسل ربط حبلين في شجرة أعلى الجرف وجعلهما يتدليان حتى عند مدخل المنحل ربط نفسهم بواحد والآخر كلفني أن أنزل له فيه قطعة قماش يصدر منها دخان بقصد إبعاد النحل.

وعندما تدلى جسمه من الجرف متوجها للمنحل حضر الملاك.. إنّها سلمى التي كانت ترقبنا منذ ذهبنا، فحمدت الله أنني أخبرتها لكي تنقذني من هذه المغامرة غير المحسوبة، هنا صرخت سلمي اصعد إلى أعلى وإلا ناديت أبي بينما مسلم صامتا وبدا متزنا على هاوية سحيقة وقال لي بصوت قوي إنزل إليّ النار.. أنزلت النار، وأيقنت سلمى ألا مناص من مساعدة الرجل، فاستجبنا ثم أمرنا وأنزلنا له قربة الجلد وتسمى بالمحلية (عنيت) التي سيحصد فيها إنتاجه من العسل، أتوقع بأن هذا المنحل ليس للنحل بل لنوع من الحشرات السامة، وهنا أصابتني أول لدغة بين عيني، وسلمى تلقت عدة لدغات أخرى.. إنّها تجربة صعبة لجمع العسل وهنا هربنا قليلا ثم عدنا للحافة لنستكشف ماذا يحصل في المنحل، مسلم يصيح ارفعوا القربة وبالفعل رفعنا القربة المملوءة بحشرات سامة وقطع سوداء داكنة وهنا أصبنا بكميات هائلة من اللدغات، وأخيرا جررنا المغامر إلى الأعلى وهربنا جميعا تاركين خلفنا القربة والحبال والإبريق والصفرية.. وكانت هذه واحدة من مغامرات أخينا مسلم.

في المساء لا تكاد تعرف واحدًا منا لقد اختفت معالم وجوهنا وطوال الليل كانت جدتي رحمها الله تدلكنا بالكركم وخليط الأعشاب.. أنا كدت أموت، أمّا المغامر البطل ففقد وعيه، وسلمى كعادتها تكابر على شعورها بالألم، وفي الصباح قامت وساعدت والدي ودلته على مكان المغامرة ليحضر المحصول والأدوات التي تركناها في مسرح العملية.

استودعكم الله.. وموعدنا يتجدد معكم بإذن الله.

حفظ الله عمان وحفظ جلالة السلطان.

alikafetan@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة