ليلة في حضرة التاريخ (وادي محرم)

علي بن سعيد العامري

استضافني التاريخ ذات ليلة في أكناف وادي محرم بين سعف النخيل وأنفاس التاريخ الرابض بين الصخور والأبنية القديمة ولم أتمالك نفسي، لأنّ كل ما قرأت عنه نضح في تلك الليلة وألح على الذاكرة والمخيلة أن تبوح به لأن التجوال في وادي محرم ليس كالتجوال في أيّ وادٍ آخر، كنت في ضيافة الأخ العزيز سعيد بن سليمان بن خلفان العامري وهو أستاذ جليل من أبناء وادي محرم ومُربٍ فاضل من الجيل الذي تشعر في حضرته بالجلال والمهابة والأنس ويشعر الحي كله بوجوده وحضوره إلى درجة أن الصغار ينفرون جافلين من وقع خطاه حين يُغافلهم بصوته الجهوري راجعًا من صلاة المغرب فيختفون من الأزقة بدشاديشهم البيضاء كما يذوب الجليد الأبيض من فوق حصى الصوان.

دخلت الوادي مع غروب الشمس في الأصيل وأنا أنصت إلى أغصان النخيل الباسق فوق ضفتيه وهي تهمس لي بمقدمة النونية المدهشة:

تلك البوارق حاديهن مرنان * فما لطرفك يا ذا الشجو وسنان
شجت صوارمها الأرجاء واهتزعت * تزجي خميسا له في الجو ميدان
تبجست بهزيم الودق منبثقا * حتى تساوت به أكم وقيعان
سقى الشواجن من رضوى وغص به * سر وجوف وغصت منه جرنان
وجلل السهل والأوعار معتمدا * ربوع ماضم عندام وجعلان
وراث ينصح للجرداء ساحتها * وطم ما رد صفنان وصخنان

هذه الأبيات المبدعة والمدهشة من مقدمة قصيدة الشاعر العظيم ناصر بن عديم الرواحي كنت أرددها وأنا أقترب من وادي محرم وسط التفافات الشعاب الحادة حيث تسرح الذئاب البرية التي رصدها سيف الرحبي في مخيلة الأسلاف ورصدها قبله الشنفري في وديان حضرموت بقوله:

وأَغْدُو على القُوتِ الزَهِيـدِ كما غَـدَا أَزَلُّ تَهَـادَاهُ التنَائِـفَ أطْحَـلُ

غَدَا طَاوِيـاً للرِّيـحَ يُعَـرِضُ هَافِيـاً يَخُـوتُ بأَذْنَابِ الشِّعَابِ ويُعْسِـلُ

عودة إلى شعاب وادي محرم وهي تلتوي وفي كل انحناءة غدير ألغث صغير يتهادى قاطعاً أسفلت الشارع ثم نازلا فوق حصباء الوادي ويجري بهوادة إلى مجمع الأودية إلى الجرداء ثم الخضراء ممتحينا أفناء حلفين حيث السوح جرنان وهكذا كنت حبيس الجغرافيا والتاريخ والأدب وقصيدة أبي مسلم البهلاني والشنفري وسيف الرحبي إلى أن وصلت إلى وسط الوادي .

لم أكن أتصور أن أقف على بعد خطوات فقط من المنزل الذي ولد وتربع في أحضانه هذا الشاعر العملاق وها أنا أقف بجوار أطلال هذا المنزل وقد تسربل بالجلال والهيبة رغم تهدم أركانه وسقوط بعض سقوفه على سفح الوادي الذي ينحدر بهوادة بين سيقان النخيل الشامخ وصخور الجبل الحادة.

ما سر ارتباطي بهذا الوادي أنا القادم من أقصى جنوب الوطن وبالذات على حافة الحدود الغربية الجنوبية في ضلكوت التي سقطت على سفوحها بعض من صفحات التوراة المنسية وقليل من أناجيل الحواريين كما يدعي بعض الرعاة الغائرين في أحداق كهوف وادي صرفيت، ثم تدلت أغصانها الراعفة أخيرًا على آخر التنوين في أطراف حروف (الحواميم) .

تقفز إلى المخيلة كل بيت من هذه الملحمة الوطنية التي كتبها ناصر بن عديم الرواحي وهو في منفاه فخلد هذه الأماكن الجميلة كما خلدت قصيدته كدرة نادرة على مفرق تاج الأدب العربي المعاصر.

لم نلبث أن بكرنا في الصباح مع انحناءات الوادي إلى الشرق ثم الغرب كما وردت في النونية قرية قرية تبهرني القرى الوادعة في حضن السفوح، إلى أن وصلنا إلى ضفاف وادي حلفين وهناك امتزج في أنفي رائحة جداد النخل برائحة الطلح البري في (عمقون) وأنا في مزرعة (شهد الهنا) في ضيافة المكرم العزيز أبي سلطان سيف بن علي بن شيخان العامري، امتزجت روائح طلع النخل وجداد السعف مع رائحة (صرب) السنابل الخضراء في سفوح الخريف في ضلكوت.

في المساء رجعت يحدوني رنين البوارق التي لمعت في سماء وادي محرم ذات ليلة لن أنساها ماحييت.

كنت أتنفس عبق النونية عن قرب لطالما حلمت به .

تعليق عبر الفيس بوك