البرلمان صمام أمان السلم الأهلي

عبيدلي العبيدلي

ارتبطت صورة مهام البرلمان، بوصف كونه "مؤسسة رسميّة تمثيلية تشريعية سياسية"، في أذهان الكثيرين ممن يمارسون العمل السياسي بمختلف مستوياته بمجموعة من الوظائف التقليدية، وهي كما تنقل أهمها الكثير من مصادر العلوم السياسية تتمحور حول واحدة او أكثر من قضيتين مركزيتين، هما:

1. التشريع، التي تعد، كما تتفق عليها دساتير الدول التي تتواجد فيها البرلمانات،" أهم وظائف البرلمانات، تاريخيا وسياسيا. فمن الناحية التاريخية، تجسدت قيم الديمقراطية في إنشاء نظام للحكم يعتمد على تمثيل الشعب، وتحقيق حرية المشاركة والمساواة بين المواطنين، وارتكز هذا النظام على وجود هيئة تقوم بدور النيابة عن هذا الشعب في تقرير أمور حياته. وبلا شك، فإن أهم أمور تنظيم حياة المجتمع هي وضع القواعد التي يجب أن تسير عليها الكافة من أجل حماية قيم الحرية والمساواة. ولهذا، فإن دور البرلمان الأول أصبح هو وضع تلك القواعد، أي القوانين." http://www.agora-parl.org/ar/news/%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B1%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%86-%D9%88%D9%88%D8%B8%D8%A7%D8%A6%D9%81%D9%87

2. الرقابة، وتتوزع على مستويات ثلاث: "الأولى هي الرقابة من البرلمان على الحكومة، والثانية من الحكومة على البرلمان، والثالثة من الرأي العام على البرلمان. أما النوع الأول من الرقابة، فهي التي يمارسها البرلمان على الحكومة. وتعتبر تلك الرقابة البرلمانية من أقدم وظائف البرلمان تاريخيا، وأشهرها سياسيا، حيث هو المسؤول عن متابعة وتقييم أعمال الحكومة. ولكن عملية رقابة البرلمان على السلطة التنفيذية لا تتم بدون توازن في القوة السياسية بينهما، حتى لا تنقلب إلى سيطرة، وتصبح السلطة التنفيذية خاضعة تماما للبرلمان، وبالتالي ينهار مبدأ الفصل بين السلطات". http://www.agora-parl.org/ar/news/%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B1%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%86-%D9%88%D9%88%D8%B8%D8%A7%D8%A6%D9%81%D9%87

ما يغيب عن بال الكثيرين منا أن أحد الدوافع التي كانت وراء ظهور البرلمان في أوروبا، بوصف كونها مهد البرلمانات تاريخيا، كان تنظيم الصراعات داخل المجتمعات الأوروبية، ونقلها من صورتها العنيفة التي كانت وراء الحروب الدامية المتكررة التي عرفتها القارة الأوروبية العجوز، وعلى مدى قرون، إلى طبيعتها العقلانية التي أصبحت، بعد تأسيس البرلمانات، تتم تحت قبة البرلمانات ذاتها، وتحددها قيمها المنطلقة من أسس ديمقراطية راسخة تقبل بالأخر، وتتمسك، في سياق دفاعها عن حقوقها، بتنامي حق ذلك الآخر في التعبير عن آرائه، والتمسك بها، دون خوف من أن يهدد ذلك حياته، أو وجل من مصادرة تلك الحقوق.

وبخلاف ما يتصور البعض منا حول البرلمانات العتيقة، فهي لم تكتمل عند ولادتها، إذ تجمع المصادر على أنها، أي البرلمانات مرت "بتطورات كثيرة وفترة طويلة قبل أن تستقر على الشكل الذي هو عليه اليوم، وكذلك الحال بالنسبة للدول التي اقتبست النظام البرلماني فنرى تفاوتاً واضحاً في تطبيقات هذا النموذج".

وهذا يفسر تعدد أشكال التجارب البرلمانية، وتفاوت صلاحياتها من بلد لآخر، وفقا لظروف كل بلد، دون أن يعني ذلك المساس بوظائف البرلمان الأساسية، التي سبق أن أوردناها أعلاه، وهي التشريع والرقابة. وبناء على ذلك، وفيما يتعلق "بتنظيم البرلمان وتكوينه، فإن الدساتير تختلف في اتجاهها في تكوين البرلمان، فهناك نظام المجلس الواحد، ونظام المجلسين، ولكل من هذين النظامين مؤيدون ومعارضون، بل أن البعض ذكر أنّ هناك نظاماً للمجالس المتعددة".

وهذا النظام الأخير كما يصفه الباحث في الشؤون السياسية، صلاح الدين فوزي "تمارس فيه السلطة التشريعية من خلال عدة مجالس، إلا أنّ أحد هذه المجالس يكون ذا اختصاص أساس في الحياة النيابية، وباقي المجالس تمارس دوراً تشريعياً محدداً أو مقصوراً على مجالات معينة على سبيل الحصر، وقد تضطلع هذه المجالس بالأعمال التحضيرية للأنظمة والاشتراك في المناقشات دون أن يكون لها الحق في التصويت".

وكانت تلك الخطوة الأولى على طريق تحقيق السلم الأهلي في أوروبا، الذي لم تستطع، حتى الحروب الكونية التي خاضتها الدول الأوروبية أن تمس القيم البرلمانية التي شكلت منذ تأسيس أول برلمان الذي يؤرخ أول ظهور له، كما جاء في بعض المصادر "في أسبانيا في مملكة ليون في عام 1118." لكن "تم استخدام مصطلح برلمان لأول مرة في المملكة المتحدة في العام 1236." على أنّ أصل تعبير برلمان مشتقة من أصل " كلمة(parle) الفرنسية وهي تعنى النقاش والحوار".

ومن ثم فبقدر ما تترسخ أقدام المجتمع فوق أرضية السلم الأهلي، وتتكرس قيمه، بقدر ما تتراجع سلوكيات حل الخلافات بين القوى المجتمعية بطرق عنيفة، كي تحل مكانها أخلاقيات الحوار السلمي، والقبول بالآخر، وهي ركائز السلم الأهلي وأعمدة معابده.

ويبدأ دور البرلمان في زرع قيم السلم الأهلي لحظة التحضير لعمليات ترشيح الأفراد الذين سيتنافسون على المقاعد البرلمانية، فحينها يدرك كل مرشح بينهم أنه مطالب بالقبول باحتمال فوز المنافسين له، كي يضمن هو قبولهم بحقه في الفوز عليهم، وتستمر عملية غرس مفاهيم السلم الأهلي وتطبيقاته المختلفة خلال فترة الصراعات الانتخابية التي لا يمكن لها إلا أن تحتدم سلميا بين مرشحي الكتل النيابية المختلفة. كل يبرز حينها مكامن قوته، دون ان يعطي لنفسه الحق في منع الآخرين من ممارسة الشيء ذاته. ورويدا رويدا تزحف سلوكيات القبول بالآخر، ومفاهيم السلم الأهلي التي تجمع سكان مجتمع معين، تحت سقف كيان سياسي واحد، على حساب أي قيم أخرى مصدرها الولاء الطائفي، أو الانتماء الفئوي.

كل ذلك يجعل من البرلمان، بغض النظر عن درجة نضجه، واكتمال مقومات أدائه النموذجي لصلاحياته وإنجازه لمهامه الملقاة على عاتقه، صمام الأمان الوحيد لإشاعة ثقافة السلم الأهلي، وتشبيع ضمير أفراد المجتمع بمقاييسها، وطرق الدفاع عنها، بعد التمسك بها.

وبقدر ما يتنامى تمسك المواطن العربي بالبرلمان، ويأخذ على عاتقه مهام الدفاع عنه، بقدر ما يتحول البرلمان من مجرد سلطة تشريعية محضة، رغم أهميّة هذا الدور، إلى صمام أمان حقيقي وقوي للدفاع عن ثقافة السلم الأهلي، في سياق دفاعه الذاتي عن استمراره كمؤسسة.

تعليق عبر الفيس بوك