عبد الكريم سروش والنظرية البلورالية

صالح البلوشي

أطلق المفكر الإيراني عبدالكريم سروش على نظريته حول التعددية الدينية بالنظرية (البلورالية) تشبيها بالأحجار الكريمة التي يكون تعدد أسطحها سببا لتعكس جمالية الشكل والألوان، وقال: إنها "تعني الاعتراف برسمية التعدد والتنوع في الثقافات، والأديان، واللغات، والتجارب البشرية". ويعد سروش نظريته بأنّها من نتاجات الحضارة الجديدة، وأنّها تبحث في مجالين مهمين، أحدهما: الأديان والثقافات، والآخر: في المجال الاجتماعي، فهناك بلورالية في المعرفة الدينية، وبلورالية في المجتمع، ويعتقد الدكتور سروش أنّ الأشخاص الذين يذهبون إلى القول بالتعددية على المستوى الثقافي والديني لا يمكنهم التنكر لمقولة التعددية الاجتماعية.

تقوم النظرية البلورالية حسب ما شرحها الدكتور سروش على دعامتين رئيسيتين، وهما:

الأولى: هي نوع الأفهام في تأملها وفهمها للنص الديني، إذ أنّ "فهمنا للنصوص الدينية متنوع، ومتعدد بالضرورة، وهذا التنوع والتعدد لا يقبل الاختزال إلى فهم واحد وليس هذا الفهم متنوعا ومتعددًا فحسب بل سيالا أيضا". وأرى أنّ الاعتراف بالفهم الآخر للنص الديني سوف يحل الكثير من الإشكاليات في الفكر الإسلامي وخاصة جمود النص الديني وإغلاق باب الاجتهاد، وأيضًا سيسهم بنسبة كبيرة في حل مشكلة التعصّب الطائفي بين المذاهب الإسلاميّة المختلفة، ويعتقد الدكتور سروش أنّ المعرفة الدينية ليست سوى الشروح والتفاسير في تاريخ الإسلام والقائمة على فهم النص؛ وبذلك ليس أمامنا سوى الاعتقاد بنسبية المعرفة الدينية والتعددية.

الثانية: التنوّع في فهم التجارب الدينية، حيث يرى سروش أنّ تعدد التفاسير يمثل في الواقع وجوهًا متعددة للحقيقة، وبتعبير ديني معروف (إنّ لله تعالى ألف اسم واسم) فالحقيقة لا تتمثل في مظهر واحد ولا تتمتع بوجوه متعددة فحسب، بل إنّ رؤية الناظرين لهذه الحقيقة بمناظر متعددة له دخل بتنوع التفاسير لها.

وعندما نقرأ عن نظرية الدكتور سروش عن التعددية الدينية والصراطات المستقيمة؛ فإننا نتذكر العارف الصوفي الكبير محيي الدين بن عربي، الذي دعا إلى وحدة الأديان وحقانيتها في أبياته الجميلة التي أنشدها منذ قرون ولا تزال تتردد صداها إلى اليوم، وهي:

لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي * إذا لم يكن ديني إلى دينه داني

وقد صار قلبي قابلا كل صورة * فمرعى لغزلان ودير لرهبان

وبيت لنيران وكعبة طائف * وألواح توراة ومصحف قرآن

أدين بدين الحب أنّى توجهت * ركائبه فالحب ديني وإيماني

وقد تطرّق ابن عربي إلى هذه المسألة وعقيدته في وحدة الأديان في الفص الثاني عشر من كتابه الشهير "فصوص الحكم"، وقال: إنّ الإله لا ينصر المؤمن به على انفراد، وإنما ينصر مجموع أهل الاعتقادات؛ بمعنى أنّ الله ليس إلها خاصا لطائفة معينة من الناس أو لشعب خاص من الشعوب، وإنّما هو رب العالمين ولكل الناس على اختلاف أفكارهم واعتقاداتهم وأديانهم، فهو جل وعلا يسمع دعاء إنسان يعيش في غابات الأمازون أو أحد أدغال إفريقيا بنفس الدرجة التي يسمع فيها لآخر يدعوه من إحدى بقاع المسلمين المترامية الأطراف ويستجيب للجميع من دون استثناء أو إقصاء لهذا الطرف أو ذاك.

ويعتقد الدكتور عبد الكريم سروش- وفقًا لقراءاته المتعددة وأبحاثه في مجال المعرفة الدينية والتعددية- أنّه لا يوجد مذهب واحد يمثل الإسلام الخاص، ولا يوجد تفسير واحد يمثل التفسير الصحيح للقرآن الكريم، ولا عقيدة المسلمين نقية من الشرك ولا العقيدة المسيحية، وأنّ العالم الدنيوي مليء بالهويات الملوثة وغير الخالصة، فلا يوجد حق صريح وخالص من جهة وباطل كثيف وخالص من جهة أخرى، وعندما نذعن لهذه الحقيقة فستكون الكثرة أقرب إلى الهضم والمقبولية.

إذن، فإن الدكتور سروش يحاول في نظريته هذه تفكيك المنظومة الدينية التقليدية، والتي تحصر الحق في اتجاه واحد فقط أو طائفة واحدة فحسب عبر طرح مفاهيم ونظريات جديدة والتوسّع في مفهوم الهداية بحيث تشمل المذاهب والأديان الأخرى وخاصة التوحيدية منها؛ ولذلك فإنّ الدكتور سروش ينفي أنّه يقصد من التعددية نفي المذهب الفردي للشخص، وإنّما يقصد كما يقول: تحقيق رؤية أفضل للمذهب أو الدين وهضم هذه الحقيقة وهي إنّ الكثرة أو التنوع أمر طبيعي وبشري وغير قابل للاجتناب.

وقد أثارت هذه النظرية الكثير من الجدل في داخل إيران وخارجها من رجال الدين وخاصة من التيار الديني المحافظ، الذين أتهموا الدكتور سروش بأنّه يروّج لنظرية النسبية بين الحق والباطل، وأنه يريد أن يروج أنّ أصحاب العقائد المنحرفة والغارقة في الشرك والوثنية، مثل: عباد الأصنام الجاهلية، وغيرها، لهم نصيب من الحقيقة تماما مثل المسلمين؛ ولكني من خلال مطالعتي لكثير من كتب ومحاضرات الدكتور سروش لم ألحظ منه مثل هذه المقولات، التي ربما اعتمدوا عليها من خلال تأويل خاطئ أو قراءة غير منصفة لنظريته، فالدكتور سروش يقول في كتاباته بأنّه لا يريد من نظريته إمضاء مقولة النسبية بين الحق والباطل؛ لأنّه يرى أن الحق والباطل يفتقدان إلى معنى مستقل، وأن كل فرقة ومذهب ودين لها الحق في كل ما تدعي وتزعم، ولكن لا يلزم من ذلك أنّ ما تدعيه وتقوله هي الحقيقة المطلقة، ويقول أيضا: إنّ هذا العالم هو عالم عدم الخلوص في كل شيء سواء في عالم الطبيعة أو عالم الشريعة، وسواء في ذلك الفرد أو المجتمع، والسر في عدم الخلوص، والنقاء هو بشرية الدين، فعندما ينزل مطر الدين الخالص من سماء الوحي على أرض الفهم البشري فسيتلوث بإفرازات الذهن وعندما تتحرك العقول لغرض فهم الدين الخالص فإنّها تقوم بخلطه بما لديها من أفكار وقيود وتعمل على تلويثه، ولذلك نرى أنّ التدين يجري بين الناس كالماء الملوث إلى يوم القيامة؛ وهناك سيحكم الله بين عباده في ما يخص اختلافاتهم، يقول الله تعالى: "وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون" (النحل الآية 124)

ومن المباني التي يستشهد بها الدكتور عبد الكريم سروش في تعزيز نظريته في التعددية الدينية اسم "الهادي" لله سبحانه وتعالى إذ يتساءل قائلا كيف نتصور معالم الهداية الإلهية متجسدة على أرض الواقع إذا كان يحرم منها مليارات من البشر من دون المسلمين؟ إذ أننا بهذا المنطق نستطيع أن نقول بأنّ الأغلبية من البشر ستعيش تحت سيطرة إبليس وسلطانه بينما تقف منطقة صغيرة جدا في أجواء الهداية الإلهية، وبهذا المنطق يعتقد الدكتور سروش أنّ هذه الملاحظات البديهية تدفع الإنسان إلى توسعة دائرة الهداية والسعادة ليرى كيد الشيطان ضعيفا كما يقول القرآن الكريم، ويعتقد بأن للآخرين نصيبا من النجاة والسعادة والحقانية، وهذه هي روح التعددية التي يدعو إليها الدكتور عبد الكريم سروش.

إنّ فك الارتباط بين مفهوم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة والدين الحق وغيرها من أطروحات الحل النهائي والحصري في الخطاب الديني وبين مفهوم الهداية تمهد لخلق وتأسيس منظومة تعددية تكاملية تسهم في نشر وترسيخ ثقافة التسامح والسلام في الإسلام بل وفي جميع المذاهب والأديان والفلسفات الدينية المختلفة، وتسهم أيضا - وفق ذلك- في القضاء على فكر الغلو والتشدد والتطرف، الذي يعاني منه اليوم مختلف المجتمعات الإسلامية وخاصة متعددة الطوائف منها، كما أنّها تسهم في ترسيخ ثقافة المواطنة في المجتمع وتحول الولاء الشخصي من الطائفة والدين إلى الأرض والوطن فقط.

تعليق عبر الفيس بوك