عبدالله حبيب وأشياء أخرى

حمود الطوقي

في المنشور الأخير الذي كتبه الكاتب العماني عبدالله حبيب بعد الإفراج عنه، وجدتُ نفسي غير مستغرب تلك الصيغة التوضيحية المنفتحة على الجانب الإيجابيّ المسؤول - من جانب عبدالله حبيب- في نقل مشهديّة غير مرئية لتعامل الأجهزة الأمنية في السلطنة مع الكتّاب والمبدعين، مقارنة باللغط وتجاذب وجهات النظر عبر وسائط التواصل الاجتماعي، التي وجدت في الحدث مناسبة لإشعال توجّهات وآراء لم تلبث أن عادت خائبة المسعى بِخُفّيّ حُنين؛ غير أنني رأيتُ في ذلك المنشور صيغة ذات بُعد تاريخي أعادني إلى العام ١٩٩٠م حينما كنتُ في زيارة إلى الجمهورية العربية اليمنية، وكنتُ - وقتها- حاضرا من أجل مناسبة توقيع اتفاقية ترسيم الحدود بين السلطنة واليمن الشقيق.

في تلك الزيارة قادتني الظروف لألتقي جمال السلاّل، وهو ابن الرئيس اليمني الراحل عبدالله السلاّل، وعرضنا عليه فكرة مقابلة والده، فأبدى موافقته، وذهبنا فعليا لمقابلته، فاستقبلنا بترحاب منقطع النظير، على الرغم من أنّه كان على كرسيّ متحرك، وقد بلغ من الكبر عتيا، وتبادلنا أطراف الحديث حول أهمية ترسيم الحدود، وهنا جاء على ذكر المقام السامي لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم - حفظه الله ورعاه- واصفا إيّاه بالرجل الحكيم، ذلك أنّ الموقف الذي اتخذه جلالته في لمّ شمل القبائل العمانية، وانفراده بحنكة وحكمة بالغتين في وضع المشهد الحدودي في صيغة تحفظ حقوق الجيران الأشقاء، في سبيل تجنب الجغرافيا البينية قلاقل لا تسمن ولا تغني من جوع، جعل منه رجل التاريخ بكل ما تعنيه من كلمة - بحسب وصف الرئيس السلاّل؛ وهذا فيه إشارة واضحة إلى قيمة النتيجة مقارنة بالأسباب والوسائل والطرق التي تم سٓلْكُها واعتمادها في تحقيق تلك الصيغة من الاتفاق المشترك لترسيم الحدود والتوقيع عليه..

في اليوم ذاته، جمعنا مجلس (المقيل) في منزل المبدع اليمني الكبير الشاعر الدكتور عبدالعزيز المقالح، حيث يجتمع في مجلسه جمع غفير من المثقفين والمبدعين والشعراء والكتّاب والأكاديميين؛ من يمنيين وضيوف، وهناك دار الحديث بأكمله عن شخصيّة ترسيم الحدود اليمنية - العُمانية، جلالة السلطان المعظم - حفظه الله - مما جعلهم يدخلون في عملية تحليل واسعة النطاق مرتكزة على الأبعاد الحكيمة والحنكة السياسية والمستوى العالي في القدرة على احتواء المشكلة، متفقين على أنّ ما قام به سيسجله التاريخ في بيض صفحاته.

هذه الاسترجاعات المشهديّة من ذاكرة التاريخ العماني تعيدنا إلى منشور عبدالله حبيب الذي أشرنا إليه في مدخل المقال، بخاصة في وصفه للطريقة الإنسانية التي تم التعامل بها معه، فضلا عن الإحاطة التاريخية - من جانب المُستجوِبين- بأدوار قام بها أفراد من عائلة حبيب ذوو صلة مباشرة بالعلم والمعرفة لم يكن يدري عنهم شيئاً قبل ذلك، فضلا عن الصيغة الحوارية الواعية التي لم تبخسْه حقه بصفته مثقفا عمانيا ذا لُحْمة وسداة وتاريخ يربطه بالوطن.

الموقف الاستجوابي - وفقا لما قاله عبدالله حبيب في منشوره الوصفي- نجده يعبّر عن المضمون والنهج الساميين تماماً، ويتفاعل من خلالهما في إيصال الرسالة التوضيحية التي تميّز علاقة الأجهزة الأمنية العُمانية بمواطنيها؛ وهذا ينبغي أن يكون الصورة الأدقّ عمّا يحصل، بعيدا عن التشنّج والانفعالات، لكون السلطنة دولة تُفضّل السلم والاحتواء على القلق والتشنج، وتغلّب حوار العقل على الانفلات العاطفي.

تجلّى سلوك جلالته في علاقته بمنهجيّة الاحتواء السلمي وبُعد النظر من خلال أحداث 2011، التي - على الرغم من جرميّتها القانونية- إلا أنّ جلالته نظر إليها من زاوية الأبُوّة الحانية والشفافية المرنة والصيغة العقلانية؛ لأنّ أبناء الوطن بمثابة أبناء له، وبالتالي تجاوز عن الزلاّت وصفح وعفا؛ تاركاً أمر نتيجة الفعل الذي أبداه جلالته للمواطن والوطن والتاريخ، مقارنة بما حصل في بلدان أخرى متفرقة في الوطن العربي والعالم.

تعليق عبر الفيس بوك