د.عبدالله عبدالرزاق باحجاج
في الوقت الذي ترتفع فيه أسعار النفط العالمية، ووصول نفطنا إلى أكثر من 43 دولارا لبرميل النفط، وبعد أن تمكنت الحكومة من سحب الدعم عن الوقود وتحرير أسعاره دون أية مشاكل، وقبلها، وقفت الترقيات والتوظيف والإحلال، نتفاجأ بتغريدة من مسؤول حكومي كبير يدعو الكل إلى تحمل آلام جديدة مقبلة لم يحدد ماهيتها، لكن ملامح بعضها أصبحت تتكشف لنا من مصادر خارجية، رغم أن هذا المسؤول وإبان النزول المكوكي لأسعار النفط 30 دولارا ومخاوف هبوطها إلى 20 دولارا، وعد بخطوط اجتماعية لن تمس، ويبدو أن هذه الخطوط لن تكون مقدسة؛ فالآلام المقبلة ستخترقها في الجوهر رغم تحسن الأسعار النفطية، ورغم تجدد طموح تعزيز موارد الدولة، وهذا كله يصيب الوعي الاجتماعي بذهول كبير، ويقف حائرا وتائها من غموض وتعقيدات مما يجري حوله من تحولات ومتغيرات كبرى تمس عمق البنية الاجتماعية على وجه الخصوص.
ومنذ أن لوح هذا المسؤول بالآلام الجديدة، وشغلنا الشاغل، ينصب حول ماهيتها وطبيعتها، حتى انكشف لنا فجأة أمس الآول بخبر من دولة مجاورة، يفيد بتوصل دول مجلس التعاون الخليجي الست لاتفاق حول تطبيق ضريبة تسمى القيمة المضافة بنسبة 5%، وماذا يعني ذلك؟ يعني، أن بلادنا -لو طبقت هذه الضريبة- فإن ذلك يعني أنها ينبغي أن تتوقع تحولات مجتمعية كبرى وفي العمق، فهل نحن قادرون على تحملها؟ طبعا (لا)؛ لأنها ضريبة استهلاكية على السلع والخدمات -كل السلع والخدمات التي تتبادر إلى الذهن بما فيها الماء والكهرباء...إلخ- بمعنى أنَّ المواطن هو الذي سيكون أكبر المتضررين منها؛ لأنه طاحونة الاستهلاك اليومي، بينما مسؤولونا واقتصاديون لن يتأثروا بها، إما لأنهم يتلقون راتبهم الشهري من الحكومة رغم مقدرتهم المالية، أو أن مقدرتهم المالية هى الضامنة لهم، لذلك سنسمع خلال الأيام المقبلة أصواتهم تتعالى عبر وسائل الإعلام والاتصال تأييدا لهذه الضريبة كمصدر مضمون للدخل غير معتدين بالحمولة الاجتماعية للدولة، وربما يكون البعض يستهدف ذلك، لغايات في نفس يعقوب، والكل يعلم أن المواطنين غير قادرين على تحمل مثل هذه الضرائب مهما كانت استثناءاتها، وحتى لو طبقت على سلع وخدمات محددة، من وراء فرض ضريبة القيمة المضافة؟ -طبعا- صندوق النقد الدولي، فقد كانت هذه الضريبة وكذلك خفض الأجور ورفع أسعار البنزين أهم الأجندات التي تحاول هذه المؤسسة الدولية التي تسيطر عليها الدول الاستعمارية التي انتصرت في الحرب العالمية الثانية، فرضها على الدول الخليجية الست، ويبدو أنها انصاعت الآن لهذه الأجندات، فهل كان مسؤولنا الكبير يلمح إلى هذه الضريبة في تصريحاته الأخيرة عن الآلام الاجتماعية المقبلة؟ وهنا نكرر قولنا بصوت عال، إنَّ الكثير من دول الخليج بما فيها بلادنا هى في منأى الآن عن إضافة أية أعباء مالية تثقل كاهل مواطنيها، لعدم قدرتهم على مواجهتها، وهذا لن يكون في صالح ديمومة استقرارها، فهناك ثلاثة مجتمعات خليجية على وجه الخصوص لم تكن قدراتها المالية تكفي لتغطية احتياجاتها اليومية قبل الأزمة، فكيف سيتحملون عصر الضرائب على السلع والخدمات؟ وكيف سيقبلونها في وقت تتحسن فيه موارد دولهم؟ تلكم الإشكاليتان ستظلان فوق الفهم الاجتماعي العام، ومحط نقاشات عامة، ومرشحة للانتقال إلى مستويات أعلى. كلما ارتفعت أسعار النفط ويقابلها استمرار الآلام الاجتماعية وتصعيدها بضرائب جديدة، فهل يأخذ الوعي الحكومي هذه القضية بعين الاعتبار والاعتداد السياسي؟ تقديرنا لمدركات الوعي الاجتماعي العام، أنه يعتقد أنه كلما ترتفع الأسعار النفطية سينعكس ذلك فورا على الإفراج عن الترقيات وتشغيل الآلاف من الشباب وتحسين جودة التعليم والخدمات الصحية، وليس الضغط عليه بضرائب مؤلمة اجتماعيا، وهذا الإدراك نفسه، يجعله يتساءل عن مصير العوائد المالية بعد ارتفاع أسعار النفط وعن أموال رفع الدعم وتحرير أسعار الوقود التي تتصاعد كلما ارتفعت أسعار النفط العالمية وعن...وعن..؟ لماذا لم تعمل الآن على الأقل من تخفيف الآلام ووقف الآلام الجديدة الموعودة؟ تساؤلات مشروعة ينبغي أن تسمع من الطرف الآخر، وتقدر ظرفيتها، والحساب لتداعياتها، وستظل هاتان الإشكاليتان تثيران هذا الوعي إثارة واستفزازا، وبالتالي تطرح نفسهما كقضية للنقاش لعلها تساهم في إدارة المرحلة الراهنة التي لا تزال في طور التشكيل رغم التوجه لإجراءات وسياسات مؤلمة اجتماعيا، وهى يبدو محط تحفظات مجلس عمان -الدولة والشورى- بدليل تدخلهما المشترك للتأثير على تلك السياسات والإجراءات، بعد لم يجد مجلس الشورى آذانا حكومية صاغية له -قد تناولناها في مقال سابق- وهذه خطوة مباركة، تنم فعلا عن فهم مشترك للتحديات المقبلة، وعن إرادة جماعية لعقل الدولة، المؤسساتي المنتخب من المواطنين والمعين بإرادة سامية، فالاجتماع الأخير المشترك لمكتب المجلسين، يحمل الكثير من الرسائل التي تُقرأ من منظور تعزيز العمل المشترك لتصحيح مسار السياسات والإجراءات الحكومية؛ فبعد الاجتماع المشترك لهما مؤخرا تم رفع مرئياتهم التي نأمل أن تؤخذ بعين الاعتبار وتعزيز موارد الدولة بعد ارتفاع اسعار النفط وبعد خمسة أشهر من تطبيق تلك السياسات والإجراءات.
هناك مخاطر مُرتبطة بإطلاق العنان للقطاع الخاص المحلي والأجنبي للتحكم في لقمة عيش المواطنين، والانصياع لكامل أجندة البنك وصندوق النقد الدوليين، فديمومة المنظومة مرهون بوجود دور فعال للدولة في الاقتصاد حتى تضمن لتلك المنظومة البيئات الوطنية التي تعيش فيها مهما كانت التحولات التي تطرأ على دور الدولة في الحياة الاقتصادية، وهناك تجربتان مرت بهما بلادنا؛ الأولى، من عام 1970 إلى عام 1995، والثانية من عام 1996 إلى عام 2015، ففي الأولى ظلت المنظومة مقدسة بامتياز، والسبب دور الدولة في الحياة الاقتصادية. والثانية، التحول في هذا الدور والتوجه نحو الاقتصاد الحر عبر تبني رؤية اقتصادية بعيدة المدى 2020 هدفت لرفع يد الدولة عن النشاط الاقتصادي وترك السوق يضبط نفسه بنفسه، وفق مكونها الأساسي وهو الليبرالية التي تقوم على فكرة الحرية الفردية، وفي مرحلة كنا شهود عيان على أحداث 2011، والآن تدفع بلادنا إلى مرحلة ثالثة تحت ضغوطات الأزمة النفطية، وهى مرحلة النيوليبرالية، أي إطلاق الحرية الفردية في الاقتصاد مقابل غل جديد وجوهري لدور الدولة في الاقتصاد وهذا الهدف الحقيقي المستهدف- والحديث الآن ينصب عن رفع بقية الدعم عن الخدمات الاجتماعية والتوسع في الضرائب وإعطاء دور أكبر للقطاع الخاص المحلي والأجنبي. وهذه صور للنيوليبرالية أي الليبرالية الجديدة، فهل تصلح لبلادنا؟ ولأول مرة نشهد هذه الأيام حضورا كبيرا ولافتا لخبراء صندوقي النقد والبنك الدوليين في بلادنا، فهل سلمنا ملفنا الاقتصادي لهاتين المؤسستين الدوليتين اللتين تهيمن عليهما كبرى الدول الرأسمالية؟ التساؤل يضعنا إلى حد كبير أمام ما تطرحه الإشكاليتان اللتان أوردناها في مقدمة هذا المقال، وهذا يعني كذلك أن الذي يحدث الآن من إصلاحات هيكلية تتجاوز عملية التناغم التلقائي مع الأزمة النفطية وتجاوزها إلى اعتبارها فرصة مواتية لتصحيح مجموعة سياسات وأنظمة تتعارض من النيوليبرالية للرأسمالية العالمية، وإلا، فإنَّ هذا التشديد الكبير على إصلاح المنظومات القائمة لماذا لا يقابله كذلك التشديد نفسه في عملية تنويع اقتصادنا ووقف استنزاف موارد الدولة المتعددة الأوجه التي لا حصرها لها؟ والأغرب أن النيوليبرالية خاصة، ونظام اقتصاد السوق عامة، تخضع الآن لإعاده تقييم منذ الأزمة المالية العالمية في أواخر العام 2008، وما أطروحات مرشحي الرئاسة الأمريكية مثل ترامب وكلينتون، سوى نموذج استدالالي على ضرورة البحث عن مفهوم جديد للدولة، بدلا من تبني أنظمة فشلت في دولها؛ فالحذر ثم الحذر من الانصياع لأجندة البنك وصندوق النقد الدوليين، والحذر كل الحذر من إسقاط معادلة الحمولة الاجتماعية في أية إصلاحات اقتصادية.