د. سيف بن ناصر المعمري
كنتُ قد وعدت القراء الأسبوع الماضي بمقالٍ يتكلم عن إحدى الدول التي تغلبت على مجموعة من التحديات في سبيل بناء نظام صحي مُتطور، لكن ما جرى الأسبوع الماضي من استمرار النقاشات حول موضوع حرية التعبير دفعني هذا الأسبوع لأن استعيد مقال كتبته منذ أربع سنوات بعنوان "الحُرية بين قوسين"، حيث يبدو أن أقواس الحرية ستظل تشغلنا عن ما يأتي خارجها من التزامات تقتضي المسؤولية سيما وإن ارتبط الأمر بقضايا قد تؤثر في أمن الوطن واستقراره، حين يوضع الوطن خارج هذه الأقواس المُهمة التي نتمحور بداخلها ونناضل من أجل توسعتها، بدون أن نعمل على توسعة رؤيتنا لما حولها من خلال التحلي بالمسؤولية وتوظيف الكلمة من أجل بناء وعي ينهض بالوطن، ويعمل على الحفاظ على إجماعه وتماسكه، وعلى تحفيز دافعية أفراده للعمل الدؤوب المخلص من أجل مواجهة التحديات التي تواجهه، فالسفينة التي نركبها هي واحدة علينا أن نجدف من أجل وصولها للمرفأ الآمن، وعلينا أن نكون أمناء في عدم إحداث ثقب فيها يدخل منه أي شيء يغرقنا، فالأوطان من حولنا تغرق في اضطرابات لا سبيل لتوقفها، وأقواس الحرية أجازت كلمات كثيرة قادت إلى هذا المآل الذي يندى له الجبين، فالاستعانة بالقوسين ظلت دائماً سبيلا لتمرير ما لا يمكن أن يمر، فالأقواس تجعل كل شيء غير جائز ممكناً سواء في السياق اللغوي أو السياسي أو الاجتماعي.
أقواس الحرية هي أشبه بجدران كبيرة تسجن أصحابها فلا يستطيعون أن يروا تأثيرها الخارجي، أو أنهم لا يملكون الرغبة في القفز خارجها لرؤية تأثيرها، ونتيجة لذلك تظل الحرية في مجتمعاتنا حبيسة هذه الأقواس، ونظل غير قادرين على الخروج بها من تلك الحدود الضيقة، لكي يصبح غير الممكن بداخلها ممكناً خارجها، فالجميع ينظر إليها على أنها قيمة سامية تضبطها حدود أخلاقية لابد أن تكون حاضرة حين تُولد الفكرة وتتحول إلى كلمات وتنشر، أو حين يبدأ المشروع ويعمل على أرض الواقع، أو حين يتخذ القرار وينفذ؛ كما أنّ هناك حدود وضوابط يضعها القانون من أجل حماية حريات الجميع، ففي الوقت الذي تبدأ فيه حريات تنتهي فيه حريات أخرى، وهكذا تتداخل متطلبات الحرية وتتعقد مما يحتم النظر خارج هاذين القوسين، وإلا فإننا سنشهد ما يمكن أن أطلق عليه "صراع الحريات" حيث يمارس البعض حريته دون أن يلتفت إلى أيّ أحد، فهم يرون أنهم كائنات حديثة لابد أن تتحلل من كل الروابط التي تعيق حريتها سواء كانت مجتمعًا وعادات وتقاليد أو كانت ديناً أو كانت مصلحة وطن، أو كانت قوانين لا تسمح بما هو خارج حدود المسموح به، أنت حُر حين لا تؤثر على مصلحة وطن بأكمله، أما حين تؤدي حريتك إلى زعزعة "الصالح العام" فلابد من قفة حقيقية، ولابد من محاسبة تقود إلى حماية الصالح العام.
للأسف نحن لدينا "كثير من الحرية قليل من الديمقراطية" على حد تعبير أحد رؤساء الوزراء العرب السابقين، فمتى سيكون لدينا قليل من الحرية وكثير من الديمقراطية والشفافية والعمل من أجل هدف واحد، والإخلاص لهذا الهدف، لا نريد أن تصبح الحرية "ضررا" ندفع ثمنه فادحا كما دفعته مجتمعات أخرى، ولذا لابد من الاستمرار في حوارات فكرية وطنية جادة حول هذه الكلمة التي لا تزال تعيش بين الأقواس، والسؤال الذي لابد أن نُعيد طرحه؟ ما هي هذه الحرية التي نتحدث عنها؟ هل هي حرية "كتابة منشورات" تاريخية تضر بالوحدة الوطنية؟ هل هي الحرية التي تقود إلى زعزعة سمعة البلد؟ أم هي الحرية التي تقود إلى المبادرة في العمل من أجل النهوض بالمجتمع في حدود ما تسمح به القوانين؟ أم هي الحرية التي تتيح التعبير عن إشكاليات تعليمية واقتصادية ومجتمعية بما يُساعد في حلها؟ أم هي الحرية التي تقوم على النقد المعتدل الذي يساعد المؤسسات في تطوير سياساتها المختلفة الرامية إلى خدمة المواطنين؟ إنّ الأسئلة تتعدد حين تكون الحرية هي الموضوع الذي نتحدث عنه، ولكن أياً كانت التساؤلات علينا أن نعي أنّ الحرية في أصلها أداة بناء وتوحيد ليست أداة هدم وتمييز وتفريق.
إننا لابد أن نحافظ على المناخ الوطني الذي فيه اتساع لهوامش ممارسة الحرية، فهناك مكتسبات متعددة في هذا الجانب خلال السنوات الماضية، وعلينا ألا نعمل على تضييق الأقواس التي تتسع طالما أنّها لا تنال من المصلحة الوطنية، وما جرى الأسبوع الماضي من إطلاق سراح أحد الكتاب في القضية التي يتابعها الجميع بترقب، يُعد مؤشراً مهماً على أهمية الحفاظ على هذا الفضاء من التجاذبات التي لا يكسب منها أحد، بل إنّها تقود إلى خسارات لا أحد يدرك حجمها، وتقود إلى تداعيات لا أحد يعرف مخاطرها، ولذا "فالحوار الداخلي هو النهج الذي يجب أن نلجأ إليه في معالجة أي قضايا وطنية، فالحوار بين الأطراف المعنية هو أفضل وسيلة للتعبير عن حرية مسؤولة، وأرى أن هناك وعياً كبيراً بقيمة هذا الحوار سيما وأنّ هناك من لديه الاستعداد ليسمع، وهو الحوار الهادئ غير المتشنج الذي ذكر هذا الكاتب أنّه دار بينه وبين من يحققون معه، وبالتالي علينا أن نسعى إلى تعزيز مكانة الحرية المسؤولة وأن نوظفها في التغلب على التحديات التي تواجهنا، والتي لن تكون عصية على وطن يتكاتف أبناؤه دائمًا من أجل تقدمه واستقراره.
وليس هناك ما أختم به أفضل من عبارتين لمفكرين إنسانيين لبنانيين؛ الأول "ميخائيل نعيمة" الذي قال "الحرية ثمرة نادرة تثبت على شجرة نادرة تُدعى الفهم"، والثاني "جبران خليل جبران" الذي قال "المحبة هي الحرية الوحيدة في هذا العالم، لأنّها ترفع النفس إلى مقام سامٍ لا تبلغه شرائع البشر وتقاليدهم، ولا تسوده نواميس الطبيعية وأحكامها"، وكم هي واسعة حرية محبة الوطن ومواطنيه والعمل من أجلهما، حرية تعالج كثيرًا مما لا تعالجه الكلمات التي تفتقد لقلب ينبض حباً.