مواقف خالدة في ذاكرة معتقة (9)

عـلي بن سالم كفيتـان

يقولُ مُحمّدٌ لست وحدي في هذه الجبال بل هناك أناس آخرون هناك قصص المساء على هشيم النّار المُتَّقدة التي يتحلق حولها الجميع بين مستمع ومشارك وبين معترض وموافق على ما يدور من شؤونهم اليومية فأحدهم يقول أبقار الآخرين زادت ولم تعد تترك لنا الكفاية من الماء عند ورودها والآخر يتكلم عن المرعى والثالث عن زكاة الحكومة وفي زاوية أخرى يتحدثون عن مزارعهم الموسمية وتجهيزها قبل بدء موسم الخريف الذي بات على الأبواب ويأتي آخر ويسأل عن ناقته التي فقدها وهل أحد من الموجودين لديه خبر عنها.

في صباح اليوم التالي ذهب محمد مع والديه وجدته العجوز إلى وادٍ جميل وارف الظلال وهنا بدأوا في إعادة بناء مزرعتهم الموسمية عن طريق إقامة سورها الخارجي معتمدين على الحطب وقطع الأشجار لإنجاز هذه المهمة الشاقة أنا كان دوري جر الأغصان إلى أبي الذي يقوم بمهمة البناء بينما أتانا شخصان آخران للمساعدة وكانت مهمتهما قطع الأفرع المناسبة لهذه العملية أمي وجدتي تحت شجرة التين العملاقة وسط المزرعة تقيمان وليمة للجميع وبعد ذلك زحفت جدتي وصارت تقطع بقايا الأعشاب وتجمعها في أكوام بينما والدتي تقوم بتجميع أكوام روث الأبقار في مختلف أرجاء المزرعة.

بحلول الضحى ازدحم المكان بالناس الطيبين الذين انهالوا من كل حدب وصوب لمساعدتنا واكتظت شجرة التين بالحضور وأنجزت نصف المهمة في ظهر ذلك اليوم الجميل حيث تمّ الانتهاء من السور الخارجي للمزرعة التي كانت كبيرة في نظري وفي المساء تمّ إحراق أكوام القش وروث الماشية لتسميد تربة المزرعة وتصاعدت أعمدة الدخان من جميع الأرجاء واستحدثت جدتي لنفسها بيتاً تحت الشجرة العملاقة كل ما معها هو أبريق ماء وسجادة الصلاة ومتاع قليل يكفي لعشاء ليلتها.

علمت قبل المغرب بأنّ جدتي ستظل تراقب النّار لكي لا تحرق بقية المراعي خارج المزرعة وستقوم بمهمة التنظيف وقلب التربة مع الرماد المحروق وسوف يساعدها الناس الوافدون يومياً بينما ستظل هي مناوبة في هذا المكان هنا سألت أبي من سيظل مع جدتي قال لي أنت معها أنت رجل وستخدم جدتك وكم سعدت بهذه المهمة الأولى لي خارج الديار ومع دخول الظلام أوقدت الجدة نارها وطبخنا وجبة الدجر (فاصوليا) مع قليل من الشاي ولا أخفيكم لقد انتابني شعور بالخوف وخاصة عندما سمعت صوت الذئاب تعوي من مسافة قريبة جدتي قالت لي لا تخف هذه الذئاب هم أصدقاؤنا من زمان وقد تحالفنا معهم وهم فقط يسلمون علينا وقالت جدتي إنهم يبحثون عن طعام.

في تلك الليلة الظلماء حدثتني جدتي أن من فقد خاله في الدنيا يعرفه في الآخرة بعلامة بين عينيه وهنا الحديث في ظل بر الخال ومكانته وطوال تلك القصة كانت تمدح أخوالي ومواقفهم النبيلة وكانت من أشد المعجبين بمواقف جدي لأمي فقالت لي هو رجل مصلٍ وتقي والكل يثق به حتى أنهم في كل قضاياهم وخلافاتهم يأتون إلى جدك يا بني ويحكمونه بينهم أو يكون شاهدًا على صلحهم أو ما توافقوا عليه هنا زاد اعتزازي بجدي وأخوالي وخاصة سعيد الذي زارنا في الكهف ثم أخذه القدر قبل أن يترك ذرية.

حدثتني جدتي عن صبر أبي على نوائب الدهر وقالت لقد تحمل ما لا يطيقه آخرون حيث كان على الدوام ذلك الرجل الملاك تقول جدتي أبوك يا بني لم يتذمر يومًا لي ولم يجرحني وكان مطيعًا وبارًا بي وبجميع أهله الذين حملهم في التعب والرخاء ففي شبابهم كانوا يذهبون للراحة والتنقل بين القبائل كما درجت العادة بين الرجال في تلك المرحلة بينما كان والدك يرعى مواشيهم ونساءهم وأولادهم وعندما كبروا جميعًا رعاهم وحفظ كرامتهم حتى أختارهم الله جميعًا من بيته إنها سنوات من الشقاء والصبر الصامت لذلك فإنني أوصيك خيرًا بأبيك وكانت هذه هي آخر الكلمات التي سمعتها قبل أن أنام في حجرها الطاهر.

أستودعكم الله موعدنا يتجدد معكم بإذن الله.

حفظ الله عُمان وحفظ جلالة السلطان.

alikafetan@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك